انسحاب دول الساحل من المحكمة الجنائية الدولية: نقاش السيادة الوطنية بين القانون والسياسة

في إعلان مشترك حمل أبعادًا تتجاوز الإطار القانوني، أعلنت كلٌّ من مالي وبوركينا فاسو والنيجر انسحابها من عضوية المحكمة الجنائية الدولية، متهمةً إياها بانتهاج سياسة “انتقائية منحازة” تركز على الدول الإفريقية وتتجاهل تجاوزات القوى الكبرى.
وعلى الرغم منْ أنّ قرار الانسحاب لن يدخل حيّز التنفيذ القانوني قبل مرور عام من تاريخ الإشعار الرسمي، إلا أنّ تداعياته بدأت تتسارع على المستويين الإقليمي والدولي، مشيرة إلى تحولات أعمق في تموضع هذه الدول ضمن النظام العالمي القائم على المعايير القانونية الدولية.
لا يمكن أنْ يُقرأ القرار في ضوء التوتر القائم بين الدول الثلاث والمؤسسات الغربية فقط؛ بل يُضاف إلى سلسلة خطوات اتخذتها هذه الأنظمة العسكرية منذ وصولها إلى الحكم عبر انقلابات سياسية، منها الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس)، وإعادة ترتيب تحالفاتها الإقليمية والدولية، بما في ذلك تشكيل تحالف الساحل الجديد. وعلى هذا النحو، يبدو أنّ مسألة العدالة الجنائية ليست سوى وجه آخر لصراع أكبر حول السيادة، التمثيل، وحدود التدخل الخارجي.
وبناء عليه، يهدف هذا التقرير إلى تحليل هذا القرار من زوايا مغايرة، تتجاوز الجدل القانوني السطحي، من خلال التوقف عند ثلاث مسارات مركزية، وهي:
- مسارات العدالة البديلة: ما مدى واقعية سعي دول الساحل لتطوير منظومات محاسبة وطنية أو إقليمية؟
- الموقف الإفريقي والدولي: كيف تفاعلت المؤسسات القارية والمنظمات الأممية مع الخطوة؟
- التحديات القانونية والسياسية: ما الذي يعنيه الانسحاب فعليًا في سياق إعادة تعريف السيادة القانونية في منطقة الساحل؟
فمن خلال هذه الزوايا، يسعى التقرير إلى تقديم قراءة متوازنة تستحضر أبعاد العدالة والسيادة، دون إغفال تعقيدات السياق الأمني والسياسي الذي تعيشه المنطقة.
أولًا: حدود العدالة الدولية وانتقائية المساءلة
منذ تأسيس المحكمة الجنائية الدولية في عام 2002، وجّهت لها انتقادات متكررة من دول في الجنوب العالمي، ولا سيما إفريقيا، باعتبارها محكمة تُمارس العدالة بانتقائية واضحة. فحتى عام 2016، كانت جميع القضايا الرئيسة التي نظرت فيها المحكمة تتعلق بدول إفريقية، الأمر الذي عزّز سردية “الاستهداف الممنهج”.
فالانسحاب الثلاثي الأخير لم يأت من فراغ؛ بل ينطلق من رؤية سياسية تتجاوز الشكوى من التحيّز لتصل إلى إعادة تقييم شامل لدور المحكمة في الفضاء الإفريقي. وتعتبر هذه الدول أنّ العدالة الجنائية لا يمكن أنْ تُفصل عن السياق السياسي، وأنّ المؤسسات الدولية لا يجب أن تُستخدم كأدوات ضغط تخدم أجندات جيوسياسية.
لكن، في المقابل، يرى المدافعون عن المحكمة أنّ انسحاب الدول الثلاث يهدد بمزيد من الإفلات من العقاب، في منطقة تعاني من عنف متصاعد، وانتهاكات ترتكبها جماعات مسلحة وأحيانًا القوات النظامية نفسها.
فبين منطق السيادة ومنطق المساءلة، تظل معادلة العدالة في إفريقيا معلقة بين نظام دولي يتطلب إصلاحًا، ونظم محلية تحتاج إلى تعزيز مؤسساتها.
ثانيًا: هل ستؤسس الدول الثلاث لنظام عدالة بديل؟
ضمن بيان الانسحاب، أعلنت حكومات كونفيدرالية الساحل: مالي وبوركينا فاسو والنيجر أنها تعتزم تطوير “آليات قضائية وطنية وسيادية” لمحاسبة المتورطين في جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة، معتبرة ذلك امتدادًا لاستقلالها السياسي ومشروعها السيادي الجديد.
لكن حتى الآن، لم تتضح معالم هذا المشروع، ولا ما إذا كانت هذه الآليات ستكتفي بإعادة تفعيل مؤسسات القضاء العسكري والمدني، أم ستنحو نحو بناء نموذج إقليمي للعدالة المشروطة.
لقد شهدت إفريقيا محاولات سابقة في هذا الاتجاه عبر التاريخ، أبرزها المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، التي أنشأها الاتحاد الإفريقي عام 2006؛ لكنها ما زالت تعاني من ضعف التمويل، ومحدودية اختصاصها، وغياب التزام بعض الدول بقراراتها.
فالدول الثلاث تواجه نزاعات مسلحة مع جماعات إرهابية، وتشهد تغييرات عميقة في أنظمتها السياسية بعد الانقلابات الأخيرة.
أما على الصعيد الوطني، فقلّما نجحت الدول الإفريقية الخارجة من النزاعات في بناء منظومات قضائية فعالة قادرة على المحاسبة دون تدخل سياسي.
في الحالة الراهنة، تتقاطع تحديات الأمن والشرعية السياسية مع جهود بناء بدائل للمساءلة القضائية. فالدول الثلاث تواجه نزاعات مسلحة مع جماعات إرهابية، وتشهد تغييرات عميقة في أنظمتها السياسية بعد الانقلابات الأخيرة.
ومع صعوبة الفصل بين ما هو عسكري وسياسي، يظل من المبكر تقييم جدية البدائل القضائية المطروحة، خاصة في غياب أطر قانونية واضحة أو شراكات إقليمية قوية في هذا الصدد.
ثالثًا: صدى الانسحاب على العلاقات مع المنظمات الدولية
إنّ قرار الانسحاب يتجاوز أبعاده القانونية البحتة؛ ليطرح سؤالًا مركزيًا، وهو: كيف ستتعامل الأمم المتحدة، والهيئات التابعة لها، مع هذه الدول مستقبلاً؟
فالمحكمة الجنائية الدولية، رغم استقلاليتها، تعمل ضمن منظومة الأمم المتحدة، وتشكل إحدى أدوات الشرعية الدولية في التعامل مع القضايا الجنائية الكبرى، لا سيما في مناطق النزاع.
فالانسحاب يأتي في وقتٍ تتدهور فيه علاقات دول الساحل الثلاث مع مؤسسات دولية عدة، بعد انسحابها من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس)، واتهامها جهات غربية بالتدخل في شؤونها الداخلية.
وبالتالي، قد يُفهم هذا القرار ضمن سياق أشمل من فكّ الارتباط التدريجي مع الهياكل الغربية التقليدية، وإعادة بناء علاقات خارجية تقوم على شراكات غير مشروطة مع قوى أخرى مثل روسيا، تركيا، والصين، ودول الخليج.
غير أنّ هذا التوجه لا يخلو من كلفة قد تكون باهظة الثمن. فتقليص حضور المنظمات الدولية، ورفض تدخلها في ملفات العدالة والأمن، قد يؤدي إلى عزلة قانونية، ويصعّب حصول هذه الدول على دعم دولي في ملفّات حساسة، منها مكافحة الإرهاب، وإعادة الإعمار، وتمويل إصلاحات المؤسسات الأمنية.
الخاتمة
بلا شكّ، يضع انسحاب مالي وبوركينا فاسو والنيجر من المحكمة الجنائية الدولية القارة الإفريقية في موضع حرج في علاقتها بمؤسسات العدالة الدولية.
ففي الوقت الذي تتصاعد فيه الدعوات إلى تفكيك إرث الهيمنة القانونية وتطوير آليات محلية أكثر تمثيلًا وشرعية، تبرز تحديات عميقة تتعلق ببناء مؤسسات قادرة، وضمان محاسبة عادلة، وتحقيق التوازن بين السيادة الوطنية والانخراط في المنظومة الأممية.
إنّ القرار لا يُختزل في كونه رفضاً للمحكمة فحسب؛ بل هو رسالة سياسية تعكس تحولات جيوسياسية أوسع، تعيد رسم خريطة العلاقات بين دول الساحل ومحيطها الإقليمي والدولي.
غير أنّ نجاح هذا المسار البديل يبقى رهيناً بمدى قدرة هذه الدول على تحويل خطاب الاستقلالية إلى مشاريع مؤسسية حقيقية، تحظى بالثقة المحلية والإقليمية، وتُقنع المجتمع الدولي بجدواها وعدالتها.
وبين المطالب المشروعة بتصحيح اختلالات العدالة الدولية، والمخاوف الواقعية من استغلال هذه اللحظة للتهرب من المساءلة، تبقى مسؤولية دول الساحل مزدوجة: تأكيد السيادة دون التراجع عن مبدأ المحاسبة، وصياغة نموذج إفريقي للعدالة لا يُفرّط بالضحايا، ولا يخضع للهيمنة.