إغلاق سفارة تشاد في إسرائيل: قراءة في الدوافع وتقاطعات المسار الإقليمي

أعلنت تشاد في مطلع سبتمبر 2025 إغلاق سفارتها في تل أبيب، بعد أقل من عامين ونصف على افتتاحها في فبراير 2023، مع نقل الاختصاص الدبلوماسي المتعلق بإسرائيل إلى سفارتها في أبوظبي.
وأوضحت وزارة الخارجية التشادية في مذكرة رسمية أن القرار يرتبط بقيود في الميزانية وإعادة تنظيم انتشار البعثات، مشيرة إلى أن العلاقات مع إسرائيل لم تُقطع؛ بل ستدار من الإمارات لتقليل النفقات. لم تأت هذه الخطوة معزولة عن سياق سياسي إقليمي، إذْ سبقتها استدعاءات متكررة للممثل الدبلوماسي التشادي في إسرائيل بسبب الموقف من حرب غزة، الأمر الذي أضفى على الإغلاق بعداً سياسيّاً غير معلن، حتى وإنْ كان السبب الرسمي ماليّاً.
إنّ توقيت القرار يسلط الضوء على مفارقة لافتة في مسار العلاقات التشادية الإسرائيلية. فقد أعيدت العلاقات رسميًا عام 2019 بعد انقطاع دام أكثر من أربعة عقود، ثم افتُتحت السفارة في احتفال وُصف آنذاك بأنه بداية صفحة جديدة. غير أن إغلاقها اليوم يعكس الضغوط التي تواجهها أنْجمينا، سواء من ناحية الأعباء الاقتصادية أو من زاوية حساسية الرأي العام تجاه الصراع في الشرق الأوسط.
وفي المقابل، فإن اختيار أبوظبي لإدارة الملف لا يخلو من دلالات سياسية، إذْ يشير إلى المكانة المتنامية للإمارات في شبكة علاقات تشاد الخارجية، سواء عبر الدعم المالي أو عبر أدوارها الإقليمية التي تجعلها مركزًا دبلوماسيًا وسيطًا بين إفريقيا والشرق الأوسط.
وبالتالي، سنتطرق في هذا المقال إلى هذه التطورات من ثلاث زوايا مختلفة. الأولى تعود إلى الخلفية التاريخية للعلاقات التشادية الإسرائيلية والأسباب التي دفعت إلى الإغلاق. والثانية تبحث فيما إذا كان القرار يعكس ضائقة اقتصادية خالصة أم أنه يحمل أيضًا رسائل سياسية مرتبطة بالحرب في غزة. أما الزاوية الثالثة فتتوقف عند دور الإمارات في احتضان الملف بعد نقله إلى أبوظبي، وما يعنيه ذلك من توسع في نفوذها داخل المعادلة التشادية.
العلاقات التاريخية وأسباب الإغلاق
بدأت علاقة تشاد بإسرائيل مبكرًا مع الاعتراف المتبادل عام 1960، ثم فَتحتْ إسرائيل سفارة في أنْجمينا عام 1962 قبل أن تنقطع العلاقات عام 1972 في مناخ إقليمي طغت عليه مواقف داعمة للقضية الفلسطينية. وبعد عقود من الجمود، عاد التواصل السياسي بقوة في يناير 2019 عبر زيارة بنيامين نتنياهو إلى أنجمينا وإعلان استئناف العلاقات، ثم تُوِّج المسار في فبراير 2023 بافتتاح سفارة تشاد في رمات غان بحضور الرئيس محمد إدريس ديبي ونتنياهو، في إشارة إلى رغبة متبادلة في إعادة ترتيب المصالح الثنائية ضمن انفتاح إسرائيلي أوسع على إفريقيا. [1]
القرار المعلن مطلع سبتمبر 2025 بإغلاق سفارة تشاد في إسرائيل يستند إلى مذكرة رسمية تُرجعه إلى قيود الميزانية وترشيد النفقات، مع نقل الاختصاص الدبلوماسي إلى سفارة تشاد في أبوظبي لضمان استمرارية القنوات الدبلوماسية من دون كلفة بعثة مستقلة.
وتتسق هذه الخطوة مع حزمة أوسع من قرارات إعادة هيكلة الانتشار الدبلوماسي شملت إغلاق بعثات أخرى وتغيير ولاياتها، ما يمنح التفسير المالي وزنًا واضحًا في سياق الضغوط على المالية العامة.[2]
ومع ذلك، لا ينفصل التوقيت عن سياق سياسي ضاغط منذ حرب غزة عام 2023؛ فقد استدعت أنجمينا القائم بالأعمال في تل أبيب للتشاور في نوفمبر من ذلك العام احتجاجاً على الأوضاع الإنسانية، وهو ما عكس حساسية الرأي العام والتوازنات الإقليمية. ويعزز هذا السياق القراءة التي ترى في الإغلاق تقاطعاً بين دافع مالي تنظيمي ورسائل سياسية غير مباشرة، مع الإبقاء على العلاقة قائمة عبر إدارة الملف من أبوظبي.[3]
إعادة هيكلة البعثات: اقتصاد القرار أم ضغط السياسة؟
تشير المعلومات المتاحة إلى أنّ الخطوة جزء من مراجعة شاملة لشبكة البعثات؛ حيث أعلنت وزارة الخارجية التشادية نقل اختصاص بعثات مغلقة إلى سفارات مجاورة بهدف “ترشيد الوسائل” من دون المساس بالعلاقات، وهو نهج تتبعه دول ذات موارد محدودة لتقليل التكاليف التشغيلية مع الحفاظ على الحضور الدبلوماسي ولو من خلال اعتمادات غير مقيمة. وفي هذا الإطار يندرج إغلاق سفارة تل أبيب ضمن سياسة تقشف دبلوماسي أوسع لا تتعلق بإسرائيل.
ومع أنّ السبب الرسمي المعلن كان مالياً، فإن البيئة السياسية منذ أكتوبر 2023 تجعل أيّ تموضع دبلوماسي تجاه إسرائيل محكوما بحسابات داخلية وإفريقية ذات نطاق أوسع. فاستدعاء أنجمينا ممثلها في 2023 يعكس هذا الاعتبار، كما أنّ موجة خطوات مشابهة في القارة آنذاك منحت الغطاء السياسي لدول أعادت ضبط مستوى علاقاتها دون قطع كامل. وقد تُفسِّر هذه الخلفية لماذا يُقرأ القرار على مستويين متوازيين، هما: إدارة الموارد، وتقليل الكلفة السياسية داخليّاً وإقليميّاً.[4]
وتُظهر الصيغة التنفيذية للقرار—الإبقاء على الصلات ونقل الاختصاص لأبوظبي—مسعىً لتخفيف الحضور الرمزي في إسرائيل من دون خسارة قنوات الاتصال العملية. وبذلك تجمع أنجمينا بين تقليص الكلفة المالية وتقليص كلفة الصورة، وهو توازن يمنحها هامش حركة مع شركاء متعارضين أحيانًا، ويتيح إعادة تقييم دور السفارة مستقبلًا وفقًا لتطورات الصراع في غزة ومسار الاقتصاد المحلي.[5]
تشاد والإمارات: تقاطع المصالح والتمثيل
اختيار أبوظبي لإدارة ملف العلاقات مع إسرائيل ينسجم مع صعود ملحوظ في صلات تشاد بالإمارات خلال الأعوام الأخيرة، شمل تعاونًا ماليًا وتنمويًا ومباحثات قطاعية في الطاقة والتعدين والقطاع المالي،[6] إلى جانب مساعدات إنسانية لدعم الأمن الغذائي.[7]
يمنح هذا المسار أبوظبي وضعية “ممرّ دبلوماسي” عملي لأنجمينا؛ حيث تتقاطع المصالح الاقتصادية مع شبكة اتصالات إقليمية نشطة تمتد من الخليج إلى القرن الإفريقي ومنطقة الساحل.
ويرتبط هذا الخيار أيضًا ببيئة أمنية حساسة على حدود تشاد الشرقية مع السودان. فمنذ اندلاع الحرب هناك في 2023، أثارت تقارير أممية وصحفية اتهامات متكررة بوجود رحلات شحن انطلقت من مطارات في الإمارات وهبطت في مطار أم جرس داخل تشاد،[8] مع ترجيح أنّ بعضها نقل دعمًا للقوات الدعم السريع، وهي اتهامات نفتها أبوظبي مؤكدة أن نشاطها إنساني،[9] فيما واصل خبراء ومؤسسات أوروبية توثيق المسارات اللوجستية المشتبه بها ودور الذهب المهرّب في تمويل اقتصاد الحرب.[10]
فوجود هذا الجدل، مع نفي الإمارات، يضع أنجمينا أمام اختبار دقيق للموازنة بين شريك مانح وبيئة إقليمية شديدة التعقيد.[11]
في هذا الإطار، يتيح نقل الاختصاص إلى أبوظبي لتشاد مكاسب عملية تتعلق بتقليل التكاليف وتعظيم الوصول إلى شريك مالي ودبلوماسي مؤثر قد يسهم في الوساطة والدعم اللوجستي؛ لكنه يربطها أيضاً بشبكة علاقات محل متابعة دولية بسبب الحرب في السودان وتجارة الذهب العابرة للحدود.
فرهانات أنجمينا هنا براغماتية الطابع، تتمثل في الحفاظ على جسور مع مختلف الأطراف، وتجنّب عزل اقتصادي، وإدارة صورتها الخارجية في ملف حساس مثل غزة، مع إبقاء العلاقة مع إسرائيل قائمة ولكن أقل ظهورًا من حيث البنية والرمزية.
الخاتمة
إنّ قرار تشاد بإغلاق سفارتها في تل أبيب لا يمكن قراءته كخطوة مالية بحتة، ولا كرسالة سياسية صريحة؛ بل كمحصلة لتاريخ طويل من علاقات متذبذبة مع إسرائيل، ومناخ إقليمي متأزم منذ اندلاع حرب غزة، وضغوط اقتصادية تفرض على أنجمينا إعادة النظر في شبكة تمثيلها الدبلوماسي.
فاختيار أبوظبي كبديل لإدارة الملف يضع الإمارات في قلب المعادلة، باعتبارها شريكًا اقتصاديًا وممرًا دبلوماسيًا؛ لكنه يربط القرار أيضًا بسياقات إقليمية ملتهبة، من السودان إلى الشرق الأوسط؛ حيث تتقاطع المصالح والمخاطر في آن واحد.
وبهذا المعنى، يظهر القرار وكأنه محاولة لتخفيف كلفة الحضور من دون قطع الخيوط الدبلوماسية، وإعادة توزيع الأعباء على حلفاء قادرين على توفير الغطاء السياسي والمالي. غير أنّ هذه الصيغة المؤقتة قد تتحول إلى سابقة في طريقة إدارة الدول الفقيرة لعلاقاتها الخارجية، خاصة حين تكون محاصرة بملفات داخلية ضاغطة وحدود إقليمية ملتهبة.
ويبقى السؤال الأهم عالقا، ألا وهو: هل ستمنح هذه المقاربة تشاد قدرة أكبر على المناورة وحماية مصالحها، أم أنها ستقيدها أكثر داخل شبكة النفوذ المتشابكة التي تمتد من غزة إلى الخرطوم، ومن تل أبيب إلى أبوظبي؟
_______
المصادر
[1] https://www.aljazeera.com/news/2023/2/1/chad-to-open-embassy-in-israel-on-thursday-netanyahu-says?utm_source=chatgpt.com
[2] https://www.alwihdainfo.com/Diplomatie-Le-Tchad-ferme-des-ambassades-et-ouvre-un-consulat-a-Kigali_a144017.html?utm_source=chatgpt.com
[3] https://english.news.cn/20231106/16ec476a9f534b45b7f2566e678a6f2f/c.html?utm_source=chatgpt.com
[4] https://www.jeuneafrique.com/1500869/politique/guerre-israel-hamas-le-tchad-rappelle-son-charge-daffaires-de-tel-aviv/
[5] https://tchadinfos.com/2025/09/05/le-tchad-ferme-son-ambassade-en-israel-pour-des-raisons-budgetaires/?utm_source=chatgpt.com
[6] https://mof.gov.ae/uae-and-chad-discuss-ways-to-strengthen-cooperation-in-financial-sector/?utm_source=chatgpt.com
[7] https://www.mofa.gov.ae/en/mediahub/news/2025/1/23/23-1-2025-uae-chad?utm_source=chatgpt.com
[8] https://www.reuters.com/world/uae-flights-flood-airstrip-un-says-supplies-weapons-sudan-rebels-2024-12-12/?utm_source=chatgpt.com
[9] https://www.aljazeera.com/news/2024/1/24/uae-denies-sending-weapons-to-sudans-rsf-paramilitary-report?utm_source=chatgpt.com
[10] https://www.chathamhouse.org/2025/03/gold-and-war-sudan/03-gold-production-and-trade-during-war?utm_source=chatgpt.com
[11] https://www.ft.com/content/388e1690-223f-41a8-a5f2-0c971dbfe6f0?utm_source=chatgpt.com