اتفاقيات التعاون اليابانية-الإفريقية: قفزة نوعية في قمة يوكوهاما 2025

في يوكوهاما اليابانية، اجتمعت أنظار العالم هذا الأسبوع على فعاليات مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية الإفريقية التاسع (TICAD 9)؛ حيث أعلنت اليابان عن توقيع 300 اتفاقية تعاون يابانية-إفريقية جديدة تغطي مجالات حيوية كالبنية التحتية، والرعاية الصحية، والتعليم، والتكنولوجيا، والزراعة.
إنّ هذا الرقم غير المسبوق، الذي يفوق بثلاثة أضعاف ما تحقق في القمة السابقة بتونس عام 2022، يرمز إلى مرحلة نوعية في مسار العلاقات بين طوكيو والقارة الإفريقية، ويعكس تحوّلًا استراتيجيًا من مجرد دعم تنموي تقليدي إلى شراكات مؤسَّسة على المصالح المتبادلة والرؤية طويلة المدى.
ومنذ إطلاق أول مؤتمر (مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية الإفريقية التاسع) عام 1993، شكّلت هذه السلسلة منصة فريدة للحوار بين اليابان وإفريقيا، قامت على مبدأ “الملكية الإفريقية والشراكة الدولية”.
إلا أنّ قمة 2025 تُعدّ الأكثر طموحاً من حيث الحجم والعمق؛ إذْ جمعت رؤساء دول وحكومات، من بينهم الرئيس الأنغولي جواو لورينسو بصفته رئيس الاتحاد الإفريقي، ورئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيـدا، لتجديد التزامات مشتركة في ظل التغيرات الجيو-اقتصادية العالمية.
إنّ أهمية هذه القمة تتجاوز الأرقام إلى ما تحمله من رمزية، فإفريقيا التي ظلت لعقود تُقدَّم كقارة متلقية للمساعدات، باتت اليوم طرفًا يُعترف بدوره في تشكيل مستقبل الاقتصاد العالمي، فيما تبحث اليابان، وسط تنافس القوى الكبرى، عن موطئ قدم أعمق في قلب القارة.
ومن هنا، فإن الهدف من هذا المقال هو قراءة أبعاد هذا الحدث التاريخي، عبر مناقشة ثلاثة محاور رئيسة، وهي: التعرف القطاعات التي تشملها هذه الاتفاقيات، والدوافع الاستراتيجية اليابانية وراء الانفتاح المتسارع، ثم الفرص والتحديات التي تواجه إفريقيا في استثمار هذه الشراكات.
أولًا: القطاعات الرئيسة لاتفاقيات التعاون اليابانية-الإفريقية
يُظْهِر الطابع «الشامل» لاتفاقيات التعاون اليابانية-الإفريقية في مزجها بين تمويل البنية التحتية الصلبة، وبناء رأس المال البشري، وتسريع التحوّل الرقمي والصحي.
فعلى مستوى التمويل التنموي الموجّه للقطاع الخاص، وقّعت طوكيو مع البنك الإفريقي للتنمية اتفاق تمديد برنامج «دعم القطاع الخاص المعزَّز» (EPSA) بمرحلة سادسة حجمها 5.5 مليارات دولار، لتعبئة استثمارات في طيف واسع من القطاعات ذات القيمة المضافة، وهو ما يعطي إشارة عملية لكيفية تسييل تفاهمات القمة إلى أدوات تمويلية قابلة للتنفيذ.
كما برزت الصحة والرفاه الاجتماعي ضمن الركائز الرسمية لـ«إعلان يوكوهاما»، عبر تعهّدات بتعزيز التغطية الصحية الشاملة (UHC)، وتوطين تصنيع المستلزمات الطبية من خلال منصات الاتحاد الإفريقي مثل الوكالة الإفريقية للأدوية (AMA)، ومنهج «المحطة الواحدة» لتقليل التجزئة وتحسين كفاءة الاستثمار الصحي، إلى جانب دعم التعليم والتدريب المهني وتخصصات العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات التي تختصر بـ STEM بوصفها رافعة مباشرة للتنمية البشرية.
وفي مثال تطبيقي على توجّه القمة لخفض كلفة التمويل، حصلت كينيا على 25 مليار ين (نحو 169 مليون دولار) بترتيب تمويلي «ساموراي» مدعوم بضمانات، لتقوية سلاسل قيمة السيارات وتقليص فاقد الكهرباء الذي يبلغ قرابة 23% من الإنتاج؛ وهو نموذج لاتفاقات فرعية تُترجم عناوين القمة إلى مشاريع محدّدة وزمنية.
ويتكامل المسار الصحي مع الزخم السياسي ضد الأمراض المدارية المُهمَلة (NTDs) عبر فعالية جانبية رفيعة المستوى في يوكوهاما تؤكّد اصطفاف المبادرة الصحية مع هدف التغطية الشاملة، ما يربط «التمويل» بـ «النتائج الصحية» وبناء القدرات.
وإلى جانب ذلك، دفعت القمة بثقلٍ نحو المهارات الرقمية عبر برنامج لتدريب 30 ألف خبير ذكاء اصطناعي خلال ثلاث سنوات، بوصفه مكوّنًا أفقيًا يخدم قطاعات البنية التحتية، والتعليم، والصحة، والزراعة الذكية مناخيًا.
ثانيًا: الدوافع الاستراتيجية اليابانية
تقف وراء القفزة الكمية هذه، (توقيع 300 اتفاقية، أيْ ثلاثة أضعاف قمة 2022)، مقاربة يابانية تريد تثبيت ميزة نسبية لا تُختزل في «الشيك التنموي»؛ بل تتجسّد في توظيف التكنولوجيا والتمويل الميسّر لبناء شراكات طويلة الأجل، مع إبراز خطاب «الشراكة المتكافئة» وتمييزه عن منافسين كبار.
وقد طرح رئيس الوزراء الياباني إشيبا شغيرو مبادرة إنشاء« منطقة اقتصادية للمحيط الهندي–إفريقيا» تربط إفريقيا بأسواق الهند والشرق الأوسط لزيادة الاستثمار والتجارة، مقرونة بحزمة قروض بقيمة 5.5 مليارات دولار وتدريب رقمي واسع، ما يضع مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية الإفريقية التاسع في صميم جغرافيا اقتصادية ممتدة تتجاوز الثنائية التقليدية «إفريقيا–قوة كبرى» إلى مثلث «اليابان–المحيط الهندي–إفريقيا.
تعزّز صور القمّة وخطاباتها تموضع اليابان كشريك آسيوي «مسؤول» يُراكم رأسمالًا سياسيًا عبر القنوات متعددة الأطراف وبحضور قيادات إفريقية ودولية واسعة النطاق، تحت سقف إعلان ختامي مشترك.
ويتّسق ذلك مع «إعلان يوكوهاما» الذي يدفع نحو تنويع سلاسل الإمداد والقيمة المضافة محليًا للمعادن الحرجة داخل إفريقيا، مع التشديد على نقل التكنولوجيا على أسسٍ متفق عليها، وتعزيز سلاسل التوريد المرنة عبر شراكات مثل برنامج RISE بقيادة البنك الدولي.
كما يربط الإعلان هذا التوجه بتيسير التجارة، ودعم تنفيذ منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA)، وتهيئة بيئة أعمال جاذبة للاستثمار الخاص، بما يمنح الفاعلين اليابانيين إطارًا مؤسسيًا لتوسيع عملياتهم الصناعية والخدمية في القارة.
وفي بُعدٍ رمزي لا يقل أهمية، تعزّز صور القمّة وخطاباتها تموضع اليابان كشريك آسيوي «مسؤول» يُراكم رأسمالًا سياسيًا عبر القنوات متعددة الأطراف وبحضور قيادات إفريقية ودولية واسعة النطاق، تحت سقف إعلان ختامي مشترك.
ثالثًا: رهانات الجانب الإفريقي وإمكاناته
تُعدُّ اتفاقيات التعاون اليابانية-الإفريقية فرصة تاريخية لاختبار قدرة الحكومات الإفريقية على تحويل التزامات القمة إلى مكاسب هيكلية، عبر ثلاثة مسارات متكاملة، وهي:
- اصطفاف الأولويات مع أجندة 2063 وخطة التنمية المستدامة 2030، بما يحمي «الملكية الإفريقية» ويمنع تشوّه الحوافز على مستوى السياسات.
- تحسين شروط التمويل من خلال دعوةٍ صريحة لمراجعة منهجيات وكالات التصنيف الائتماني لتأخذ في الاعتبار الآثار طويلة الأمد للإصلاحات وإعادة الهيكلة الطوعية، وتقليص كلفة رأس المال التي تخنق الاستثمار العام والخاص.
- توطين التكنولوجيا والصناعة في الصحة والطاقة والزراعة والرقمنة، مع ربط ذلك بأمن الطاقة وعدالة التحوّل الأخضر، ورفع الوصول للكهرباء نحو 300 مليون مستفيد بحلول 2030 بحسب المسارات الإفريقية المعلنة، فضلًا عن توسيع التجارة الرقمية وتيسير الجمارك لتنمية سلاسل القيمة القارية.
ليست هذه الرؤية طموحًا خطابيًا؛ فهي مُثبّتة في نص «إعلان يوكوهاما» بندًا بندًا، وتشمل الدعوة لتعزيز التصنيع الدوائي المحلي (AMA)، ودعم التمويل الصحي المستدام بقيادة مركز إفريقيا لمكافحة الأمراض (Africa CDC)، وتوسيع التدريب والتعليم والابتكار للشباب، بما يخلق حلقة فاضلة بين التمويل، وبناء القدرات، وتحسين الرفاه.
غير أنّ «شرط النجاح» يظلّ رهن تقوية الحوكمة، وتجنّب التشتت بين مبادرات متنافسة، وضمان تعاقدات تحقق المحتوى المحلي ونقل المعرفة، وتدفع نحو تكاملٍ قاري فعلي بدلًا من صفقاتٍ ثنائية متفرّقة.
الخاتمة
إنّ توقيع اتفاقيات التعاون اليابانية-الإفريقية في قمة يوكوهاما 2025 يعتبر علامة فارقة في تاريخ العلاقات بين الجانبين، سواء من حيث الكم غير المسبوق للاتفاقيات أو من حيث تنوع القطاعات التي شملتها.
ومع ذلك، فإنّ حجم التطلعات لا يخفي حقيقة أنّ الطريق إلى التنفيذ لن يكون سهلًا، فنجاح هذه الشراكات سيصطدم بتحديات تتعلق بالحوكمة، وضبط التمويل، وآليات المتابعة والمساءلة.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى مقاربة واقعية تحافظ على توازن العلاقة وتمنع انزلاقها نحو تكرار تجارب خارجية أرهقت القارة في السابق.
ولذلك، فإنّ الملاحظة الأهم تكمن في ضرورة أن تبادر الدول الإفريقية إلى صياغة أجندة مشتركة تجعل من هذه الاتفاقيات أداة لتعزيز التكامل القاري، لا مجرد عقود ثنائية متفرّقة.
أما على الجانب الياباني، فسيكون الامتحان الحقيقي في التزامها بمبدأ «الشراكة المتكافئة» وتوفير قنوات نقل للتكنولوجيا والمعرفة تترك أثرًا طويل المدى داخل القارة.
وإذا ما تحققت هذه الشروط، يمكن أن تتحول هذه القمة من محطة بروتوكولية عابرة إلى رافعة استراتيجية تفتح لإفريقيا آفاقًا جديدة على خريطة الاقتصاد العالمي.
للمزيد من هذا النوع من المحتوى، تصفح تصنيف: إفريقيا والعالم