تقدير موقفالنزاعات الأهلية والعرقية

مفاوضات الكونغو ومتمردي إم23 في قطر: هل ستفتح الجولة الجديدة المرتقبة آفاق الحل النهائي؟

قريباً، ستبدأ في العاصمة القطرية الدوحة جولة جديدة من مفاوضات الكونغو ومتمردي إم23، بعد إعلان الدوحة في 17 أغسطس 2025 عن تقديم مسودة اتفاق سلام للطرفين، في محاولة لإنقاذ المسار التفاوضي الذي تعثر رغم التفاهمات السابقة.

هذه الجولة تأتي استنادًا إلى إعلان المبادئ الذي وُقّع بين الطرفين في الدوحة بتاريخ 19 يوليو، والذي نصّ على الشروع في التفاوض بحلول 8 أغسطس، والتوصل إلى اتفاق نهائي في موعد أقصاه 18 أغسطس. ومع عدم الالتزام بالجدول الزمني المحدد، تؤكد الوساطة القطرية أن الطرفين أبديا تجاوبًا إيجابيًا واستعدادهما لمواصلة الحوار.

الدور القطري في هذا الملف يُمثّل امتدادًا لجهودها النشطة في الوساطة الدولية؛ حيث تسعى الدوحة، عبر قنوات هادئة وبمقاربة توازن المصالح، إلى خلق مساحة للحوار في إحدى أكثر النزاعات استعصاءً في منطقة البحيرات العظمى.

وتعكس هذه المبادرة تطورًا في أدوات السياسة الخارجية القطرية تجاه القارة الإفريقية، القائمة على التهدئة والدبلوماسية المتقدمة بدلًا من الاصطفافات التقليدية.

غير أنّ المفاوضات تنعقد على وقع اشتباكات عنيفة متجددة في محيط بلدة مولمبا، جنوب إقليم شمال كيفو، وسط اتهامات من الجيش الكونغولي لحركة م23 بشن هجمات متكررة على مواقعه.

كما أنّ الحركة لا تزال تحتفظ بسيطرتها على مناطق واسعة، بما فيها مدينة غوما الاستراتيجية، مما يطرح تساؤلاتٍ جدية حول الالتزام العملي بمخرجات أيّ اتفاق محتمل.

وفي هذا السياق، يسعى هذا المقال إلى تسليط الضوء على المشهد الراهن عبر ثلاثة محاور رئيسة، هي: تقديم خلفية شاملة للصراع بين الحكومة الكونغولية وحركة إم23، وتطورات جولات التفاوض السابقة، وتحليل فرص نجاح الوساطة القطرية في ضوء السياق الإقليمي والواقع الميداني في شرق الكونغو الديمقراطية، وأخيراً، استشراف السيناريوهات المستقبلية المحتملة لمسار المفاوضات وتأثيرها على مشهد الاستقرار في المنطقة.

أولاً: خلفية الصراع ومآلات الجولات السابقة

يُعدّ الصراع بين الحكومة الكونغولية وحركة “23 مارس” (M23) من أكثر النزاعات تعقيداً في منطقة البحيرات العظمى؛ حيث تتداخل فيه الأبعاد المحلية مع الإقليمية والدولية.

لقد نشأت الحركة بداية في عام 2012 من رحم التمرّد السابق لحركة المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب (بالفرنسية: Congrès National pour la Défense du Peuple)، والتي تختصر بـ  CNDP، وتحديدًا من جنود انشقوا عن الجيش الكونغولي احتجاجاً على ما وصفوه بخرق اتفاق السلام الموقع في 23 مارس 2009، والذي أخذت منه الحركة اسمها.

ومنذ إعادة تشكّلها نهاية عام 2021، أطلقت 23م موجة عسكرية جديدة أدّت إلى سيطرتها على مساحات واسعة من إقليمي شمال وجنوب كيفو، وخصوصًا المحيط الحيوي لمدينة غوما، العاصمة الاقتصادية للشرق الكونغولي.

وقد ارتبطت الحركة بشكل وثيق بجمهورية رواندا؛ حيث توجه كينشاسا، بدعم من بعثات الأمم المتحدة، اتهامات مباشرة إلى كيغالي بتقديم دعم لوجستي وعسكري للحركة، وهو ما تنفيه رواندا رسميًا. ولقد زاد هذا العامل من تعقيد الجهود الدبلوماسية، وجعل أيّ مسار تفاوضي مرهوناً بترتيبات أوسع تتجاوز حدود الدولة الكونغولية.

وخلال السنوات الثلاث الماضية، عُقِدتْ عدة جولات تفاوضية برعاية إقليمية ودولية، أبرزها مبادرة نيروبي التي أطلقتها مجموعة شرق إفريقيا EAC، ثم مبادرة لواندا التي تبنّاها الاتحاد الإفريقي، والتفاوض شبه الصوري الذي قاده ترامب مؤخرا، إلا أن جميعها انتهتْ دون نتائج ملموسة، بسبب غياب الضمانات التنفيذية، وتعمّق فجوة الثقة بين الأطراف.

التحوّل النوعي في هذا الملف جاء من الدوحة؛ حيث استطاعت الوساطة القطرية في يوليو 2025 انتزاع توقيع إعلان مبادئ من الطرفين، وهو تطور لم يتحقق في الجولات السابقة.

وقد تضمّن الإعلان التزاماً بإطلاق مسار تفاوضي مباشر، والانخراط في مناقشة القضايا العسكرية والإنسانية والسياسية، ضمن خارطة طريق محددة زمناً.

تمتلك الوساطة القطرية مقومات قوة لا يمكن إنكارها. فالدوحة تنطلق من موقع غير استعماري، وتحظى بقبول نسبي من طرفي النزاع، كما أن سجلها في النزاعات الإفريقية (مثل دارفور وتشاد سابقًا) يمنحها رصيدًا دبلوماسيًا يوظَّف لصالح التهدئة.

غير أن الالتزامات لم تُترجم بعد إلى مكاسب ميدانية، بل شهدت مناطق مثل مولمبا تصعيدًا جديدًا في العمليات العسكرية، ما يضع علامات استفهام حول مدى التزام الحركة المسلحة بأي وقف حقيقي لإطلاق النار.

ثانياً: تحديات الوساطة وفرص النجاح

رغم الصيغة الإيجابية التي عبّر عنها المسؤول القطري في 17 أغسطس الجاري بشأن تجاوب الطرفين، فإنّ نجاح الوساطة في إرساء سلام دائم يواجه جملة من التحديات المركبة، بعضها يرتبط بالسياق المحلي في شرق الكونغو، وبعضها الآخر يتعلق ببنية النزاع نفسه.

  1. أولى هذه التحديات تتمثل في انعدام الثقة التاريخي بين الحكومة المركزية في كينشاسا وبين مجتمعات التوتسي التي يُنظر إلى M23 على أنها تمثلها. فغياب سياسات الإدماج الاجتماعي، واستمرار الفجوات التنموية في الأقاليم الشرقية، يجعل أيّ اتفاق هشًّا وقابلًا للانهيار بمجرد تغيّر الميدان العسكري. كما أنّ الجيش الكونغولي، الذي يضمّ في قياداته من يقف ضد أي تسوية مع الحركة، قد يُشكّل عامل عرقلة داخلي، ما لم يُعاد ترتيب أولويات القيادة الأمنية.
  2. التحدي الثاني يرتبط بالمعادلة الإقليمية، خصوصًا مع استمرار التوترات بين الكونغو ورواندا، وتنامي نفوذ قوى دولية منافسة في المنطقة مثل أوغندا وبوروندي. وهذا يعني أن المسار القطري بحاجة إلى ربط حل النزاع الداخلي بتفاهمات إقليمية أوسع، وإشراك اللاعبين المؤثرين في صياغة اتفاق يعالج أسباب الصراع وليس فقط تجلياته العسكرية.

في المقابل، تمتلك الوساطة القطرية مقومات قوة لا يمكن إنكارها. فالدوحة تنطلق من موقع غير استعماري، وتحظى بقبول نسبي من طرفي النزاع، كما أن سجلها في النزاعات الإفريقية (مثل دارفور وتشاد سابقًا) يمنحها رصيدًا دبلوماسيًا يوظَّف لصالح التهدئة.

كما أن تبنّي نهج الدبلوماسية الصامتة، القائم على الثقة والعلاقات الثنائية، يُعطي للمفاوضات طابعًا عمليًا بعيدًا عن الضغوط الإعلامية والمواقف الاستعراضية.

علاوة على ذلك، فإنّ موافقة الطرفين على حضور الجولة الحالية، رغم فشل الالتزام بالموعد النهائي المحدد في 18 أغسطس، يعكس وجود قناعة نسبية بأهمية إعطاء الفرصة لهذا المسار، وربما شعور بعدم جدوى البدائل العسكرية، بعد سنوات من الاستنزاف.

لكن نجاح هذه الجهود يبقى مرهونًا بقدرة الوساطة على تثبيت وقف إطلاق النار، واستصدار ضمانات حقيقية، سواء من أطراف إقليمية مثل رواندا وأوغندا، أو من الفاعلين الدوليين كالأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ومجلس الأمن.

ثالثاً: السيناريوهات المحتملة وخيارات المستقبل

تُشكّل مفاوضات الدوحة امتدادًا نوعيًا لمسار طويل من محاولات تسوية النزاع في شرق الكونغو؛ لكنها – بخلاف سابقاتها – تنطلق من مقاربة أكثر براغماتية انفتاحاً على معادلات الواقع المعقّد.

وفي ضوء ما استعرضناه من خلفيات الصراع وتطورات الجولة التفاوضية، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسة في هذا الإطار، وهي:

  1. سيناريو الانفراج الحذر: يفترض هذا المسار أنْ تتكلل الوساطة القطرية بتفاهمات جزئية تقود إلى تهدئة ميدانية، وفتح ممرات إنسانية، وإطلاق ترتيبات مؤقتة لعودة النازحين. مثل هذا السيناريو يتطلب توافقات إقليمية دقيقة، وضمانات تنفيذ دولية تُعزز الثقة بين الطرفين.
  2. سيناريو الانهيار والتصعيد: إذا فشلت الأطراف في تجاوز حالة انعدام الثقة، فإنّ الجولة قد تنتهي إلى طريق مسدود، مما يفتح الباب أمام تصعيد واسع النطاق، وربما تدويل النزاع مجددًا، وسط اشتداد الاصطفافات في إقليم البحيرات العظمى.
  3. سيناريو الجمود التفاوضي المقنّن: وهو السيناريو الأقرب في حال غلبت الحسابات التكتيكية على الإرادات السياسية؛ حيث تستمر اللقاءات دون اختراقات حقيقية، ما يُبقي الصراع في حالة “هدنة معلّقة“، تُستخدم لإعادة التموضع وتحقيق مكاسب ظرفية، لا لتحقيق سلام دائم.

في المحصلة، فإنّ النجاح النسبي الذي راكمته قطر في عدد من ملفات الوساطة الإفريقية، من تشاد إلى دارفور، يجعل من تجربتها الحالية في ملف الكونغو فرصة واعدة لكسر الحلقة المفرغة من العنف.

إنّ ما يُميّز الوساطة القطرية ليس فقط حيادها الإيجابي؛ بل قدرتها على إدارة التعقيد بحكمة وهدوء، وبناء مساحة وسط بين متطلبات السيادة ومقتضيات الاستقرار. ومع أنّ الطريق لا يزال طويلًا، إلا أنّ نافذة الدوحة قد تكون الأخيرة، على الأقل في المدى المتوسط، قبل أنْ تُغلق الأبواب أمام حل سياسي متوازن.

والتساؤلات التي تطرح نفسها تلقائيا هنا، هي: هل تملك كينشاسا وحركة 23م الشجاعة الكافية لالتقاط هذه اللحظة التاريخية وإنهاء الأزمة؟ أم أنّ لغة البنادق ستواصل فرض منطقها في بلد أرهقته الحروب؟

الإجابات، كما في كل الحروب الطويلة، لا تحددها البنادق وحدها؛ بل إرادة الذين تعبوا من حملها.

زر الذهاب إلى الأعلى