مرصد الوعي

المحكمة الجنائية الدولية تدين قادتي ميليشيا من جمهورية إفريقيا الوسطى بجرائم حرب

في 24 يوليو 2025، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي أحكامًا بالسجن على اثنين من قادة ميليشيا أنتي-بالاكا في جمهورية إفريقيا الوسطى، بعد إدانتهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال النزاع الطائفي الذي تفجر في البلاد عام 2013. تُعد هذه الأحكام تطورًا بارزًا في الجهود الدولية لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة ضد المدنيين، في بلد لطالما عانى من الإفلات من العقاب وضعف مؤسسات العدالة المحلية.

ولأهمية هذا الحدث، سيسلط هذا التقرير الضوءَ على السياق الذي نشأت فيه هذه المحاكمة، ودور المحكمة الجنائية الدولية في معالجتها، كما يتناول الشخصيات المتهمة، والمسارات القانونية التي أوصلت القضية إلى الحكم. كما يستعرض طبيعة الجرائم التي تم توثيقها، ويضعها في إطار التحديات المستمرة أمام العدالة والمصالحة في إفريقيا الوسطى، في ظل محاولات بناء سلام هش ومؤسسات ما زالت في طور التعافي.

خلفية الصراع المسلح في جمهورية إفريقيا الوسطى

بدأت الأزمة في جمهورية إفريقيا الوسطى عام 2013، عندما سيطر تحالف مسلح يُعرف باسم سِلِكا (Seleka) على العاصمة بانغي وأطاح بالحكومة. تحالف سِلِكا، ذو الأغلبية المسلمة، ارتكب أعمال عنف ممنهجة ضد السكان المدنيين، مما أثار ردة فعل شرسة من ميليشيات مسيحية تُعرف باسم أنتي-بالاكا (Anti-Balaka).

بدلاً من الدفاع عن المجتمعات المسيحية كما زعمت، تحولت هذه الميليشيات إلى قوة انتقامية استهدفت المسلمين بشكل واسع. حملات القتل والتهجير والاعتداء على المدنيين كانت سمة مشتركة لكلا الطرفين، وأدت إلى تفكك مؤسسات الدولة ودخول البلاد في فوضى دموية. الأمم المتحدة وصفت الوضع آنذاك بأنه “كارثة إنسانية وأزمة طائفية”، بينما فُرضت عقوبات دولية على قادة الميليشيات من كلا الجانبين.

من قيادة الميليشيا إلى محكمة لاهاي

في هذا السياق العنيف برز ألفريد ييكاتوم، المعروف بلقب “رامبو”، وهو ضابط سابق في الجيش تحول إلى قائد مليشيا أنتي-بالاكا ثم نائب برلماني. في عام 2018، تم توقيفه بعدما أطلق النار داخل البرلمان، وتم تسليمه لاحقًا إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.

أما باتريس إدورد نغاييسونا، فكان وزيرًا سابقًا للرياضة في الحكومة، وأحد أبرز الداعمين السياسيين والماليين لحركة أنتي-بالاكا. ألقي القبض عليه في فرنسا نهاية 2018، وسُلّم أيضًا إلى المحكمة الدولية. كلا الرجلين واجها لائحة طويلة من التهم، شملت القتل والتعذيب والاضطهاد والاعتداء على المدنيين.

المحاكمة بدأت في عام 2021 واستغرقت أربع سنوات من الجلسات والشهادات وتحليل الأدلة، لتُصبح أول قضية تنظر فيها المحكمة الجنائية الدولية تتعلق بالعنف الطائفي في إفريقيا الوسطى بعد عام 2013.

تفاصيل الجرائم كما وثّقتها المحكمة

أثناء تلاوة الحكم في يوليو 2025، قدّم القاضي بيرترام شمِت سردًا مروعًا للجرائم المرتكبة. أفاد أن عناصر من قوات ييكاتوم قاموا بتعذيب أحد الضحايا عبر قطع أصابعه وأذنيه قبل اختفائه دون أثر. كما تم قتل مدنيين آخرين وتشويه جثثهم، في ما وصفته المحكمة بـ”انتهاكات واسعة ومنهجية ضد السكان المسلمين”.

أُدين ييكاتوم بـ 20 تهمة، وحُكم عليه بالسجن 15 عامًا، فيما أُدين نغاييسونا بـ 28 تهمة، منها الاضطهاد والتعذيب والقتل، وحُكم عليه بالسجن 12 عامًا. في المقابل، تم تبرئة ييكاتوم من تهمة تجنيد الأطفال، وبرّأت المحكمة نغاييسونا من تهمة الاغتصاب، بسبب عدم كفاية الأدلة الجنائية المباشرة.

المتهمان التزما الصمت خلال الجلسة، وأظهرا برودًا أثناء النطق بالأحكام، ما أثار ردود فعل غاضبة من جانب بعض عائلات الضحايا.

المحكمة الجنائية الدولية والعدالة في جمهورية إفريقيا الوسطى

تمثل هذه القضية علامة فارقة في عمل المحكمة الجنائية الدولية في إفريقيا، لأنها أول إدانة صريحة لجرائم ارتُكبت على يد ميليشيا أنتي-بالاكا. المحكمة، التي تعرضت سابقًا لانتقادات بسبب تركيزها المفرط على القادة الأفارقة، أظهرت في هذه القضية قدرة على الوصول إلى عدالة متوازنة تشمل جميع الأطراف.

في الوقت ذاته، تستمر المحكمة في النظر في قضية محمد سعيد عبد الكاني، أحد قادة سِلِكا المتهمين بارتكاب انتهاكات ضد المدنيين المسيحيين. كما تستعد محاكم محلية مختصة، بدعم دولي، لبدء محاكمات جديدة ضد قادة آخرين مثل إدموند بينا وآخرين من الصفوف المتقدمة في الجماعات المسلحة.

رغم ذلك، يبقى التحدي الأكبر هو تنفيذ الأحكام القضائية، وحماية الشهود، وتوطيد ثقة السكان المحليين في العدالة، خصوصًا في بلد لا تزال مؤسساته الأمنية والقضائية هشة، وتعتمد جزئيًا على دعم خارجي من قوات رواندية ومرتزقة روس.

ما بعد النزاع وفرص المصالحة الوطنية

رغم تراجع حدة القتال خلال السنوات الأخيرة، لا تزال مناطق نائية من جمهورية إفريقيا الوسطى تشهد اشتباكات متقطعة بين مجموعات مسلحة والجيش. لا تُعد الأحكام القضائية بحد ذاتها كافية لتحقيق السلام، لكنها تشكّل خطوة رمزية مهمة نحو العدالة.

يرى مراقبون أن النجاح في هذه القضايا سيفتح الطريق نحو حوار وطني حقيقي، ومصالحة مجتمعية قائمة على المحاسبة، وليس على التسويات السياسية فقط. كما أن مساءلة كبار القادة تشكّل رسالة رادعة للمقاتلين الحاليين، بأن الإفلات من العقاب لم يعد مضمونًا كما في السابق.

العدالة، إذًا، ليست فقط في السجن، بل في القدرة على بناء ذاكرة جماعية تُعيد تعريف معنى المواطنة والعيش المشترك بعد عقد من الرعب والانقسام.

الخاتمة

تُبرز هذه الأحكام أهمية دور العدالة الدولية في ملء الفراغ الذي تتركه الأنظمة القضائية الوطنية خلال فترات الاضطراب، كما تؤكد أن الإفلات من العقاب لم يعد واقعًا مسلمًا به في النزاعات الأهلية.

ومع ذلك، فإن ترجمة هذه الأحكام إلى أثر فعلي على الأرض تتطلب خطوات مكمّلة تشمل إصلاح مؤسسات الدولة، وضمان استقلال القضاء، وبناء آليات مستدامة لحماية الحقوق والمصالحة المجتمعية.

ويبقى تحقيق العدالة الشاملة مرهونًا بقدرة الدولة والمجتمع الدولي على الربط بين المحاسبة القانونية وإعادة بناء الثقة الاجتماعية، ضمن مسار جامع يوازن بين الذاكرة، والعدالة، والتعافي

زر الذهاب إلى الأعلى