الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية

اتفاق الدوحة بين الكونغو الديمقراطية وحركة M23: خطوة نحو سلام حقيقي أم هدنة مؤقتة؟

في تطور لافت للمشهد الأمني في منطقة البحيرات الكبرى، تم توقيع اتفاق الدوحة بين الكونغو الديمقراطية وحركة م23 في 19 يوليو 2025، برعاية دولة قطر، بهدف وضع حدٍ لجولةٍ جديدة من العنف المسلح في إقليم كيفو الشرقي.

هذا الاتفاق، الذي ينص على وقف دائم لإطلاق النار ووقف خطابات الكراهية ومحاولات التوسع العسكري، جاء تتويجًا لجهود وساطة امتدت لأشهر، بعد تصعيد دموي شنته الحركة المدعومة من رواندا مطلع العام، وأدى إلى سيطرتها على مدن استراتيجية مثل غوما وبوكافو، مع نزوح مئات الآلاف من المدنيين وسقوط آلاف الضحايا.

تكمن الإشكالية في أن هذا الاتفاق ليس الأول من نوعه، لكنه يأتي في سياق أكثر تعقيدًا، حيث تتداخل فيه أزمات داخلية مزمنة، وتدخلات إقليمية متشابكة، وسياقات دولية متغيرة. فعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود، ظل شرق الكونغو ساحةً مفتوحة لصراعات الموارد والهويات والتحالفات، وسط عجز الدولة المركزية عن فرض سيادتها، وتوسع نفوذ المجموعات المسلحة ذات الدعم العابر للحدود.

يهدف هذا التقرير إلى تفكيك هذا الحدث من خلال ثلاث زوايا مركزية: أولًا، الوقوف على خلفية الصراع وتداعياته السياسية والإنسانية؛ ثانيًا، تحليل أدوار الوساطة الإقليمية والدولية مع تقييم لمساهمة قطر في اتفاق الدوحة؛ وثالثًا، استشراف مستقبل الاتفاق وأثره المحتمل على العلاقات بين كينشاسا وكيغالي، واستقرار المنطقة ككل.

جذور الصراع وتداعياته الإنسانية والسياسية

تعود جذور الصراع في شرق الكونغو الديمقراطية إلى أوائل تسعينيات القرن الماضي، حين بدأت تتراكم التوترات العرقية والسياسية في منطقة البحيرات الكبرى، وخاصة بعد الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، والتي دفعت بآلاف المقاتلين والمليشيات الهوتو إلى اللجوء إلى شرق الكونغو.

هذا التداخل بين اللاجئين والمسلحين، وضعف سيطرة الدولة الكونغولية على أقاليمها الشرقية، مهّد لتشكل بيئة خصبة للصراعات العابرة للحدود، غذّتها الحسابات الإقليمية المرتبطة بالثروات الطبيعية الهائلة، خاصة الذهب والكولتان والمعادن النادرة.

ومنذ ذلك الحين، ظل شرق الكونغو مسرحًا لصراعات متكررة بين الجماعات المسلحة، بموازاة محاولات الحكومة المركزية لاستعادة السيادة دون نجاح مستدام.

في هذا السياق، ظهرت حركة 23 مارس (م23) عام 2012، كمجموعة منشقة عن الجيش الكونغولي، تتكون في الأساس من عناصر سابقة في حركة “CNDP” (المجلس الوطني للدفاع عن الشعب)، وهي بدورها جماعة كانت مدعومة من رواندا خلال عقد الألفينيات. تعود تسمية الحركة إلى اتفاقية السلام الموقعة مع الحكومة في 23 مارس 2009، والتي تزعم مقاتلوها أن كينشاسا لم تلتزم بها، خصوصًا في ما يتعلق بإدماجهم الكامل في الجيش وتوفير الحماية لمجتمعات التوتسي.

ومنذ انطلاقتها، ارتبطت الحركة بعلاقات وثيقة مع رواندا، حيث تتهم الأمم المتحدة كيغالي بدعمها لوجستيًا وعسكريًا، وهو ما تنفيه الحكومة الرواندية باستمرار.

في بداية عام 2025، شنت الحركة هجومًا واسعًا في إقليم شمال كيفو، مكّنتها من السيطرة على مدن محورية مثل غوما وبوكاڤو، ما شكّل انتكاسة خطيرة للقوات الحكومية، ودفع الآلاف من المدنيين إلى النزوح نحو مناطق أكثر أمانًا أو عبور الحدود إلى أوغندا ورواندا.

ووفقًا لتقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (OCHA)، فإن القتال الأخير أدى إلى نزوح أكثر من 600,000 شخص خلال النصف الأول من العام فقط، وسط نقص حاد في الغذاء والرعاية الصحية ومراكز الإيواء.

وعلى المستوى السيادي، مثّل هذا التوسع العسكري من قبل م23 تحديًا مباشرًا لهيبة الدولة الكونغولية، التي فشلت مرارًا في استعادة السيطرة على الإقليم رغم الدعم العسكري الذي تتلقاه من بعثة الأمم المتحدة (MONUSCO) وقوات شرق إفريقيا. كما عمّق الوضع الانقسامات الداخلية في كينشاسا بين من يدعون إلى المفاوضات مع المتمردين ومن يرون في ذلك تنازلًا مرفوضًا عن السيادة.

كل هذه العوامل شكلت الخلفية التي جعلت من اتفاق الدوحة بين الكونغو الديمقراطية وحركة م23 محطة بالغة الأهمية، ليس فقط لوقف القتال، بل لإعادة النظر في بنية الصراع نفسه وشروط الحل المستدام.

الوساطات الإقليمية والدولية… بين النجاح المحدود والدبلوماسية المركّبة

شكّل اتفاق الدوحة بين الكونغو الديمقراطية وحركة م23 تحوّلًا لافتًا في مسار الوساطات السابقة، إذ نجحت قطر في جمع الطرفين على طاولة التفاوض بعد أشهر من الجمود الدبلوماسي، مستفيدة من سجلها المتقدم في التوسط في النزاعات المعقدة، وحرصها على تعزيز حضورها في ملف السلام الإفريقي.

تبدو الوساطة القطرية فرصة جديدة، لاختبار إمكانية تحقيق نتائج ملموسة، شريطة أن تُستثمر بدعم إقليمي وإفريقي فاعل يعزز فرص تطبيق اتفاق الدوحة بين الكونغو الديمقراطية وحركة م23 على الأرض.

وما ميّز الوساطة القطرية هذه المرة هو حيادها النسبي في النزاع، ونجاحها في توفير بيئة تفاوضية محمية من التجاذبات الإقليمية المباشرة، إضافة إلى غياب أجندات استعمارية سابقة، مما أكسبها ثقة مبدئية من الطرفين.

كما ساهم الطابع السري والدبلوماسي للمفاوضات، التي استمرت لأسابيع في الدوحة، في الوصول إلى صيغة اتفاق واقعية، تركز على وقف إطلاق النار، وتوفير خارطة طريق لمرحلة ما بعد النزاع، دون القفز إلى ترتيبات سياسية شاملة قبل نزع فتيل التوتر الميداني.

ورغم هذا التقدم، فإن المشهد الإقليمي والدولي المحيط بالنزاع ما زال معقدًا. فقد لعب الاتحاد الإفريقي دورًا رمزيًا في الترحيب بالاتفاق، لكنه فشل خلال السنوات الماضية في تقديم آلية فاعلة لحل الصراع بسبب انقسام أعضائه وتداخل مصالح بعضهم في الملف. أما الأمم المتحدة، ممثلة ببعثة “مونوسكو”، فقد تعرضت لانتقادات واسعة في الداخل الكونغولي لفشلها في حماية المدنيين؛ بل وتسجيل انسحابات تكتيكية في وجه تقدم م23.

ومن جهتها، سعت دول شرق إفريقيا، خصوصًا كينيا وأوغندا، إلى احتضان مفاوضات متفرقة، ضمن إطار “عملية نيروبي”، لكنها لم تنجح في تحييد الشكوك العميقة بين كينشاسا وكيغالي، لا سيما مع تورط الأخيرة في دعم الحركة وفق تقارير أممية موثقة.

وتأتي إخفاقات الوساطات السابقة نتيجة مجموعة من العوامل المتداخلة، أبرزها غياب الإرادة السياسية الحقيقية من بعض الفاعلين، وافتقار بعض المبادرات إلى الحياد، وغياب الثقة بين الأطراف، فضلًا عن فشلها في إدماج البعد الأمني والإنساني ضمن مسارات تفاوضية متوازية. فغالبًا ما ركزت تلك الوساطات على ترتيبات فوقية دون معالجة جذرية لأسباب النزاع، وعلى رأسها السيطرة على الموارد، وتهميش بعض المكونات العرقية، وغياب التنمية في مناطق النزاع.

ولذلك، تبدو الوساطة القطرية فرصة جديدة، لاختبار إمكانية تحقيق نتائج ملموسة، شريطة أن تُستثمر بدعم إقليمي وإفريقي فاعل يعزز فرص تطبيق اتفاق الدوحة بين الكونغو الديمقراطية وحركة م23 على الأرض.

استشراف مستقبل الاتفاق ومسار العلاقات الكونغولية الرواندية

رغم ما يمثله اتفاق الدوحة بين الكونغو الديمقراطية وحركة م23 من تقدم نسبي نحو خفض التصعيد، إلا أن آفاق تحوّله إلى عملية سلام شاملة تظل مشروطة بجملة من العوامل السياسية والميدانية. فمن دون إصلاح حقيقي في بنية الدولة الكونغولية، وبناء عقد سياسي يتجاوز منطق الإقصاء والتهميش، سيبقى الاتفاق أقرب إلى هدنة مؤقتة منه إلى تسوية دائمة.

إنّ استمرار النفوذ غير الرسمي لبعض الأطراف الإقليمية في مناطق التعدين يشكل تهديدًا دائمًا لأي اتفاق، ما يتطلب إشرافًا دوليًا وإقليميًا مشتركًا على تنفيذ بنود إعادة الانتشار وفرض القانون في تلك المناطق.

كما أن إدماج الحركة في المشهد السياسي أو العسكري، إن لم يتم في إطار وطني جامع ومؤسسي، قد يعيد إنتاج الصراع بأشكال جديدة، وهو ما حدث سابقًا بعد اتفاقات مماثلة في الأعوام 2009 و2013.

ولعل الخطوة التالية الأكثر إلحاحًا هي فتح قنوات حوار شامل بين الحكومة والمكونات المجتمعية في الشمال الشرقي، بما فيها التوتسي والنازحين، بهدف استعادة الثقة والتمهيد لاستقرار طويل الأجل.

أما ملف السيطرة على الأراضي والثروات في شرق البلاد، فهو يُعد التحدي الأبرز في المرحلة المقبلة. إذ لا يمكن عزل الصراع عن السياق الاقتصادي المرتبط بالمعادن النادرة والكولتان والذهب، والتي تشكل ركيزة مالية للحركات المسلحة وشبكات تهريب إقليمية. وإذا لم تُربط العملية السياسية بإجراءات ميدانية لفرض سيادة الدولة على المناجم والمعابر الحدودية، وبناء آليات شفافة لتوزيع العائدات التنموية، فإن دوافع العنف ستبقى قائمة.

كما أنّ استمرار النفوذ غير الرسمي لبعض الأطراف الإقليمية في مناطق التعدين يشكل تهديدًا دائمًا لأي اتفاق، ما يتطلب إشرافًا دوليًا وإقليميًا مشتركًا على تنفيذ بنود إعادة الانتشار وفرض القانون في تلك المناطق.

وفي المقابل، يفتح الاتفاق الباب أمام فرص تعاون إقليمي إن تم استثماره بحكمة. فقد تمثل المرحلة المقبلة فرصة لإعادة ضبط العلاقات بين كينشاسا وكيغالي، على قاعدة احترام السيادة وتعزيز التعاون الأمني والاقتصادي، خاصة في مجال البنية التحتية والتجارة البينية.

إلا أن هذه الإمكانية تبقى رهينة بتوفر الإرادة السياسية لدى الجانبين، ووقف الحملات الإعلامية والتحريضية، ومأسسة الحوار عبر قنوات دبلوماسية مستقرة. أما في حال عادت المواجهات أو تم خرق الاتفاق، فإن المنطقة ستشهد موجة جديدة من اللا استقرار، قد تتجاوز آثارها الحدود الجغرافية التقليدية وتُغذي صراعات أوسع في إقليم البحيرات الكبرى.

الخاتمة

إنّ اتفاق الدوحة بين الكونغو الديمقراطية وحركة م23 لحظة مفصلية في مسار نزاع طال أمده وأثقل كاهل الدولة والمجتمع في شرق الكونغو. ففي بيئة إقليمية متشابكة ومجال دولي مشحون بتقاطعات المصالح، تبدو كل محاولة جادة لكسر الجمود محل تقدير، خاصة حين تأتي من وسيط مثل قطر، الذي أظهر قدرة لافتة على توفير بيئة تفاوضية محايدة، وصياغة مسار تفاوضي يعترف بالتعقيد دون أن يغرق في تفاصيله.

ومع أنّ الاختبار الحقيقي لا يزال على الأرض، فإن القيمة الرمزية والسياسية لهذا الاتفاق تمنحه فرصة للنجاح، إذا أحسنت الأطراف استثمار لحظة التهدئة.

وبناءً على ذلك، فإن التوصيات الأساسية تتمثل أولًا في ضرورة أن تبادر الحكومة الكونغولية إلى تعزيز حضورها المؤسساتي في المناطق المتأثرة، من خلال إعادة تأهيل البنية الإدارية والأمنية، وربطها بمشاريع تنموية ملموسة. أما حركة م23، فعليها أن تلتزم الكامل بمضامين الاتفاق، وتبتعد عن أي مناورة ميدانية تقوّض الثقة.

وبالنسبة للحكومة الرواندية، فإن دعم الاستقرار في شرق الكونغو ينبغي أن يكون جزءًا من رؤية شاملة للأمن الإقليمي، لا مناورات تكتيكية على حساب جارتها. وعلى مستوى الاتحاد الإفريقي والمنظمات الأممية، يُستحسن تحويل الترحيب الرمزي بالاتفاق إلى دعم مؤسسي ولوجستي يواكب التطبيق.

أما قطر، فقد برهنت عبر هذه الوساطة أنها قادرة على لعب دور هادئ وفعّال في مناطق لا تنتمي تقليديًا لمجال نفوذها، ما يعكس تحوّلًا في فلسفة الوساطة الإقليمية باتجاه الدبلوماسية الحصيفة متعددة الأطراف. سيكون من المهم أن تواصل هذا الدور في المتابعة والتنفيذ، ليس فقط لحماية مسار الاتفاق، بل كمساهمة استراتيجية في تعزيز هندسة سلام إفريقية أكثر استقلالية وكفاءة.

زر الذهاب إلى الأعلى