أخبار الساحل

إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في السنغال بعد 65 عاما: لحظة فارقة في الوعي الإفريقي

كان الوجود العسكري الفرنسي في السنغال على مدى عقود طويلة أحد أبرز أوجه العلاقة بين الدولة المستقلة وماضيها الاستعماري، وظل حاضرًا بشكل رمزي واستراتيجي في شكل قواعد وتعاون أمني منذ الاستقلال في عام 1960.

حيث ورثت السنغال عن علاقته بفرنسا مزيجا من الامتنان العسكري في الحرب العالمية الثانية، والانكشاف السيادي في ملفات الدفاع والأمن. ففي حين كانت فرنسا ترى في وجودها العسكري دعمًا للحليف الإفريقي المستقر، كانت قطاعات متزايدة من المجتمع السنغالي ترى فيه استمرارية لصيغة من النفوذ المقنّع، حتى وإن جاءت تحت مسمى التعاون الأمني.

فالعلاقات الأمنية السنغالية–الفرنسية مرت بتحولات متعددة؛ لكنها لم تصل إلى لحظة الانقطاع الكامل إلا مع إعلان حكومة الرئيس باسيرو ديوميي فايي في 2024 عن خطة إنهاء التمركز العسكري الفرنسي على الأراضي السنغالية. فلم يكن هذا القرار وليد لحظة عابرة أو نتيجة خلاف دبلوماسي مباشر؛ بل جاء تتويجًا لمسار طويل من التململ الشعبي والسياسي، غذّته تحولات داخلية متعلقة بصعود جيل جديد في السلطة، وتحولات خارجية تمثلت في انسحاب فرنسا من معظم دول الساحل الإفريقي في أعقاب انقلابات وانتفاضات اجتماعية طالبت بإنهاء “الوجود الأجنبي“.

ما ميّز الحالة السنغالية هو أنها لم تأتِ في سياق الانقلاب، بل في سياق انتخاب ديمقراطي عبّر فيه المجتمع عن تطلع واضح لإعادة تعريف السيادة.

ولهذه الأهمية، ينطلق هذا التقرير من قراءة هادئة لحدث إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في السنغال، ليس من زاوية الاحتفال أو الإدانة؛ بل من منظور التأمل في المعنى السيادي والرمزي لهذا التحول. فالمسألة تتجاوز مجرد تفكيك القواعد أو سحب القوات، إلى لحظة تفكير في ماهية الشراكة الإفريقية مع القوى الخارجية، وشكل الدفاع الوطني في عالم متغيّر.

فيسعى التقرير إلى فهم التحوّل في العقيدة الأمنية للسنغال، والظروف السياسية الداخلية التي جعلت لحظة الانسحاب ممكنة، ثم التأثيرات بعيدة المدى على تموضع السنغال في البيئة الجيوسياسية الجديدة لإفريقيا.

التحول في العقيدة الأمنية السنغالية

لم يكن الوجود العسكري الفرنسي في السنغال مجرد ترتيبات لوجستية أو تدريب مشترك؛ بل كان يعكس عقيدة أمنية رُسمت منذ الاستقلال، تقوم على الاعتماد النسبي على الحماية الفرنسية مقابل الاستقرار.

وقد ساعدت هذه الصيغة الدولة السنغالية في مراحل مبكرة على تجاوز التحديات الحدودية والإقليمية، لا سيما في ظل هشاشة المؤسسات العسكرية الإفريقية آنذاك. إلا أن هذا النمط من التفكير بدأ يتآكل مع تنامي الوعي السيادي في المؤسسة العسكرية نفسها، ومع بروز نخبة جديدة ترى أن تحقيق الأمن لا يمكن أن يُستورد من الخارج.

ففي السنوات الأخيرة، بدأت وزارة الدفاع السنغالية في إعادة النظر في عقيدتها الأمنية، مستفيدة من التجارب الإقليمية، وخاصة ما ترتب على الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو، حيث أظهرت الوقائع أن الاعتماد على الشراكات العسكرية الأجنبية لم يمنع الفوضى ولا التهديدات الإرهابية.

لقد تعزز في الداخل السنغالي اقتناعٌ متزايد بأن الأمن الحقيقي لا يتحقق إلا ببناء القدرات الذاتية، وهو ما شجّع على إعادة هيكلة القوات المسلحة، والتركيز على توطين نظم الإنذار المبكر، والاستخبارات الحدودية، والمناورات المشتركة الإفريقية.

وقد جاء إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في السنغال كمحطة رمزية لترسيخ هذا التحول العقائدي. فلم يكن مجرد إعلان سياسي، بل جزءًا من رؤية دفاعية تقوم على التمكين الذاتي وتعزيز الردع المحلي. ولا يعني ذلك بالضرورة القطيعة مع فرنسا أو الغرب، بل يعني الانتقال من نمط “الاعتماد الحذر” إلى “الشراكة المتكافئة”، بحيث لا تكون السيادة الأمنية موضوعًا تفاوضيًا، بل إطارًا لكل علاقة دفاعية مستقبلية.

دلالات التوقيت السياسي للانسحاب

ارتبط توقيت إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في السنغال بسياقات سياسية دقيقة، أهمها التحوّل في القيادة السياسية إثر انتخاب الرئيس بشيرو جومايْ فاي، الذي حمل خطابًا شبابيًا سياديًا مدعومًا من تحالف سياسي يرغب في إعادة تشكيل العلاقة مع الدولة الفرنسية على أسس أكثر توازنًا.

هذا التغيير لم يكن مجرد رغبة شعبوية، بل جاء في لحظة إقليمية حساسة تراجعت فيها مكانة فرنسا في غرب إفريقيا نتيجة فشل سياستها العسكرية في الساحل، وخسارتها لمواقعها في مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

التوقيت نفسه ارتبط أيضًا بمشهد داخلي سنغالي يتجه نحو إعادة كتابة العلاقة بين المواطن والدولة، حيث أصبحت مسألة السيادة جزءًا من الخطاب العام، لا تقتصر على النخب. لقد شهدت البلاد في السنوات الماضية احتجاجات شبابية تطالب بإزالة رموز النفوذ الفرنسي، من اللغة إلى الاقتصاد، وكان من الطبيعي أن تُطرح مسألة القواعد العسكرية بوصفها اختبارًا حقيقيًا لمدى التزام الدولة بإرادة شعبها.

وفي ظل هذا المزاج العام، لم يكن ممكنًا الإبقاء على الوجود العسكري الفرنسي في السنغال من دون تكلفة سياسية عالية. من هنا، اتخذت القيادة الجديدة قرارها برويّة، ولكن بحزم، باعتبار أن اللحظة تمثل اختبارًا للانسجام بين الخطاب والممارسة.

وهكذا لم يكن توقيت الانسحاب معزولًا عن التحولات المحلية، بل جاء ليؤكد أن الإرادة السيادية لم تعد مؤجلة، وأن السنغال تسير بخطى متأنية نحو تحرير قرارها الأمني من أي تبعية غير مبررة.

تموضع السنغال في الخرائط الأمنية الجديدة

في ظل التحولات الجارية في بنية النظام الدولي، لم يعد مقبولًا أن تبقى دول إفريقية مثل السنغال في موقع المتلقي الأمني فقط، بل بات من الضروري أن تعيد بناء تموضعها الجيوسياسي استنادًا إلى استقلال القرار وتعدد الشراكات.

وفي هذا السياق، يفتح إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في السنغال المجال أمام الدولة لإعادة صياغة دورها في المنظومات الأمنية الإفريقية، سواء من خلال تفعيل تعاونها في إطار الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس)، أو عبر تعزيز علاقتها بمبادرات الأمن الجماعي الإفريقية.

فالتحرر من الوصاية العسكرية الفرنسية لا يعني الانعزال، قدر ما يسمح بمرونة أكبر في اختيار الشركاء، سواء على مستوى التدريب أو التكنولوجيا الدفاعية أو تبادل المعلومات. وهو ما بدأت ملامحه تظهر في تحركات دبلوماسية باتجاه دول مثل تركيا، وحتى الصين، دون القطيعة مع شركاء غربيين مثل الولايات المتحدة. المهم في هذه المعادلة أن السنغال لم تعد تنظر إلى الأمن كمنحة تقدمها قوة كولونيالية سابقة، بل كاستثمار استراتيجي تُديره وفقًا لأولوياتها الوطنية.

ويُنتظر أنْ تلعب السنغال، بعد هذا التحول، دورًا أكثر تأثيرًا في إعادة تشكيل معادلة الأمن الجماعي في غرب إفريقيا، ليس فقط بما تمثله من استقرار نسبي، ولكن بما تمتلكه من شرعية جديدة مستمدة من قرارها السيادي.

وبذلك، يتحول إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في السنغال من لحظة داخلية إلى رسالة إقليمية بأن زمن التبعية الأمنية قد انقضى، وأن إفريقيا تكتب حاضرها بوعي وخيارات مستقلة.

الخلاصة

إنّ إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في السنغال يمثل لحظة وعي سياسي واستراتيجي تتجاوز بعدها المحلي لتشكّل إشارة إلى تحوّل أوسع في علاقات إفريقيا مع ماضيها الكولونيالي. فقد اختارت السنغال أن تنهي فصلًا طويلًا من الاعتماد الأمني، وتبدأ مسارًا جديدًا عنوانه السيادة الفعلية وإعادة تشكيل الشراكات على أسس من التكافؤ والاحترام المتبادل.

وفي ضوء ذلك، تبرز الحاجة إلى أن ترافق هذه الخطوة السيادية رؤية واضحة لبناء القدرات الدفاعية الوطنية، وتوسيع الشراكات الاستراتيجية المتوازنة مع دول إفريقية وعالمية، بعيدًا عن الاستقطاب والولاءات الجامدة. كما يُوصى بأن تُعمّق السنغال دورها داخل الأطر الأمنية الإقليمية، لتتحول من دولة متلقية للدعم إلى فاعل مؤثر في أمن غرب إفريقيا.

أما الدول الفرنكوفونية الأخرى، فإن تجربة السنغال تُقدم لها نموذجًا ناضجًا للتدرّج نحو فك الارتباط غير المتكافئ مع القوى السابقة، دون قطيعة أو صدام. فإعادة التفكير في العلاقة مع فرنسا لا تعني بالضرورة الرفض، بل إعادة تعريف الشراكة بما يضمن السيادة والكرامة والتنمية المشتركة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى