ترامب وإفريقيا .. بين المعادن والهجرة تتشكل معالم العلاقة الجديدة

في عام 2022، شكّلت المساعدات الأميركية لليبيريا نسبة 2.6% من دخلها القومي الإجمالي، وهي الأعلى عالميًا كنسبة من الناتج الوطني لدولة واحدة. هذه النسبة لم تكن مجرد رقم، بل كانت تمثّل نموذجًا للعلاقة التي بنتها واشنطن مع عدد من الدول الإفريقية لعقود، علاقة ارتكزت على المساعدات الإنمائية بوصفها أداة مركزية للسياسة الأميركية في القارة.
غير أن هذا النموذج يشهد اليوم تحولًا لافتًا، بعدما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خلال لقاء مع خمسة من قادة إفريقيا في البيت الأبيض، إغلاق وكالة التنمية الأمريكية (USAID) واستبدال منطق “المساعدة” بمنطق “الفرصة”.
جاء هذا اللقاء بعد أيام فقط من تحليلات متعددة تناولت تحضيرات القمة، من بينها ما نُشر في موقع “مركز الوعي الإفريقي“، والذي أضاء على الطابع غير التقليدي للانفتاح الأميركي الجديد على إفريقيا. لكن ما كُشف رسميًا خلال القمة تجاوز التوقعات، ليُظهر ملامح سياسة أمريكية أكثر براغماتية وأقل التزامًا بمسؤولياتها التقليدية تجاه التنمية والاستقرار في القارة.
فالبيت الأبيض، الذي استضاف قادة الغابون، وغينيا-بيساو، وليبيريا، وموريتانيا، والسنغال، بدا كمن يوجّه رسائل متعددة الأبعاد، سعي إلى صفقات في مجال المعادن الاستراتيجية، وتقليص لبرامج المساعدات، وضغوط لاحتواء الهجرة الإفريقية من خلال ترتيبات أمنية وإدارية جديدة. كل ذلك ضمن سباق مكشوف مع النفوذ الصيني الذي ترسخ اقتصاديًا وبنيويًا في عدة دول إفريقية.
وعليه، سيناقش هذا المقال ملامح هذا التحول الأمريكي الجديد من خلال ثلاثة محاور رئيسة: أولًا، أثر التحول من المساعدات إلى التجارة على الدول الإفريقية؛ ثانيًا، الخلفيات الاقتصادية المرتبطة بالموارد والمعادن الاستراتيجية؛ وثالثًا، البُعد الأمني والهجري كجزء من شروط التعاون الأمريكي المستجد.
نهاية عصر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والتحول إلى التجارة
كان إعلان الرئيس دونالد ترامب عن إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) أمام قادة خمس دول إفريقية بمثابة لحظة فاصلة في مسار العلاقة الأميركية–الإفريقية. هذه الوكالة، التي تأسست منذ ستينيات القرن الماضي، لعبت دورًا محوريًا في تنفيذ البرامج الإنمائية الأميركية في مجالات التعليم والصحة والأمن الغذائي والحكم الرشيد. ومع أن مؤشرات تقليص الدعم ظهرت منذ سنوات، إلا أن الإغلاق الرسمي يشكّل قطيعة رمزية ومؤسساتية مع مرحلة امتدت لعقود.
الانسحاب الأمريكي من ساحة التنمية لا يُفسَّر فقط على أنه تقليص في الدعم؛ بل كتراجع في أدوات النفوذ الاستراتيجي.
إنّ انعكاسات هذا القرار بدأت تتضح بجلاء في دول مثل ليبيريا، التي كانت تعتمد على المساعدات الأميركية بشكل كبير. وفقًا لبيانات مركز التنمية العالمية، بلغت المساعدات الأميركية لليبيريا 2.6% من ناتجها القومي الإجمالي عام 2022، وهو ما يجعل القرار بمثابة صدمة اقتصادية للبلد الذي يعاني من هشاشة في البنية التحتية واعتماد كبير على التمويل الخارجي.
وفي السياق ذاته، يبرز القلق من فجوة تمويلية قد تتركها واشنطن في برامج الصحة العامة والتعليم، خاصة في دول لا تملك بدائل فاعلة على المدى القصير.
لكن الأمر لا يقتصر على البعد المالي فقط؛ بل يشمل ما هو أعمق من ذلك، وهو التحول في رؤية واشنطن لدورها في إفريقيا. فبدلًا من تبنّي منطق الشراكة التنموية طويلة الأمد، تسعى الإدارة الحالية إلى صياغة علاقة تجارية قائمة على تبادل المنفعة المباشر.
قد يَلقى هذا التحول ترحيباً في بعض الأوساط الإفريقية الساعية إلى اجتذاب الاستثمارات، إلا أنه يطرح تساؤلات حول منطق العدالة والإنصاف في العلاقات الدولية، خصوصًا إذا كانت المساعدات تُستبدل بشروط تجارية تُثقل كاهل الاقتصادات الضعيفة.
ومن جهة أخرى، يبرز خطر ترك فراغ تنموي قد تسعى أطراف دولية أخرى لملئه، خاصة الصين التي عززت حضورها في إفريقيا عبر مشاريع البنية التحتية والاستثمارات طويلة الأمد. وبالتالي، فإن الانسحاب الأمريكي من ساحة التنمية لا يُفسَّر فقط على أنه تقليص في الدعم؛ بل كتراجع في أدوات النفوذ الاستراتيجي، بما قد يُعيد تشكيل خريطة الشراكات في القارة ويمنح منافسين جيوسياسيين فرصًا أوسع لترسيخ نفوذهم.
المعادن النادرة وسباق النفوذ الاقتصادي مع الصين
لقد أظهرت تصريحات الرئيس ترامب خلال لقائه بالقادة الأفارقة أنّ أحد الأهداف المركزية لهذا الانفتاح الجديد هو توسيع الوصول الأميركي إلى المعادن الاستراتيجية، خاصة تلك المستخدمة في الصناعات التكنولوجية والعسكرية.
هذه الثروات، التي تشمل الكوبالت والليثيوم والمنغنيز والذهب، باتت تمثّل أحد أهم رهانات القوة في الاقتصاد العالمي. ووفقًا لتقارير دولية، فإن بلدان مثل الغابون وموريتانيا وليبيريا تضم احتياطات واعدة في هذا المجال، وهو ما جعلها محط اهتمام خاص من إدارة ترامب التي تسعى لتأمين سلاسل إمداد مستقلة عن الصين.
هذا التحرك الأميركي لا يأتي من فراغ؛ بل في سياق تنافسي متصاعد مع الصين، التي سبقت الولايات المتحدة بخطوات واسعة في القارة الإفريقية. ففي حين تراجعت واشنطن عن دعم مشروعات تنموية، كثّفت بكين من حضورها الاستثماري، حيث بلغت استثماراتها في الغابون وحدها أكثر من 4.3 مليار دولار، فيما شيّدت الطريق السريع الوحيد في غينيا-بيساو، بحسب تقديرات مؤسسة بروكينغز. ولعل ما قاله الرئيس الغابوني بريس أوليغي نغيما أمام ترامب يلخص المزاج الإفريقي: “أبوابنا مفتوحة… وإذا لم تأتوا، فسيأتي غيركم”.
غير أن الرؤية الأميركية الجديدة تبدو مشروطة ومحددة بزوايا ضيقة، تركز على الموارد أكثر من البنية المؤسسية أو الشراكة المتكافئة. وهو ما قد يضعها في موقع تنافسي ضعيف على المدى البعيد إذا ما قورنت بالمقاربة الصينية الأشمل، التي تمزج بين البنية التحتية، والتعليم، والقروض، والمشاريع بعيدة المدى.
إن التركيز على الصفقات التجارية من دون بناء أرضية مؤسسية أو ضمانات تنموية قد يُضعف جاذبية واشنطن، ويُظهرها كفاعل انتقائي يسعى فقط وراء الثروات، لا شريكًا ملتزمًا برفاه القارة واستقرارها.
الهجرة والأمن… أوراق ضغط في ثوب التعاون
إلى جانب الملفات الاقتصادية، لم يُخفِ الرئيس ترامب سعيه لاستخدام القمة الإفريقية كمنصة لطرح قضايا الهجرة غير النظامية. فقد طالب القادة الحاضرين بالتعاون مع إدارته لتوقيع ما يُعرف باتفاقيات “الدولة الثالثة الآمنة“، وهي ترتيبات تقضي باستقبال مهاجرين أفارقة رُحّلوا من الولايات المتحدة، حتى وإن لم يكونوا من مواطني الدول المستقبِلة.
هذه الصيغة، التي سبق استخدامها في مناطق أخرى من العالم، تثير تساؤلات قانونية وإنسانية حول مسؤولية الدول الإفريقية عن استقبال مهاجرين لم تختَرهم، ودون أن تملك بنية مؤسسية مؤهلة للتعامل مع أوضاعهم.
إنّ التحول في مقاربة الهجرة من جانب واشنطن يعكس بوضوح تركيزًا أكبر على البُعد الأمني والإداري، بعيدًا عن المعالجة الجذرية لأسباب الهجرة، مثل الفقر، والنزاعات، وتغيّر المناخ. وفي الوقت الذي تراجعت فيه برامج التنمية والدعم المؤسسي التي كانت تعالج الجذور، يجري تسليط الضوء على الهجرة بوصفها تهديدًا يجب ضبطه.
بعض القادة الحاضرين أبدوا استعدادهم للتعاون في ملف الهجرة، إلا أنّ التفاوت بين أولويات الجانبين يظل قائمًا.
هذا التغيير في الأولويات يعيد تعريف العلاقة بين الطرفين من علاقة تقوم على معالجة الاختلالات البنيوية إلى علاقة مشروطة بتقديم “خدمات أمنية” في مقابل الولوج إلى الفرص التجارية أو الاعتراف السياسي.
وما يثير الانتباه أيضًا هو تزامن هذا الطرح مع تقارير مسربة من وزارة الخارجية الأمريكية تفيد بإمكانية توسيع قائمة حظر السفر لتشمل أربعًا من الدول الخمس المشاركة في القمة، في خطوة قد تُفسَّر على أنها تمارس ضغوطًا سياسية صامتة.
إذْ كيف يمكن الجمع بين عرض الشراكة الاقتصادية وفرض قيود على التنقل في الوقت ذاته؟ مثل هذه المفارقات قد تُقوّض الثقة السياسية، وتحدّ من فعالية أيّ اتفاقات مستقبلية، خاصة في بيئة دولية تتغير فيها التحالفات بسرعة.
ومع أنّ بعض القادة الحاضرين أبدوا استعدادهم للتعاون في هذا الملف، إلا أنّ التفاوت بين أولويات الجانبين يظل قائمًا. فبينما تسعى الدول الإفريقية إلى تعزيز الاستثمار وبناء الشراكات، تركّز إدارة ترامب على ضبط تدفّقات الهجرة وتقييد الحركة. وهنا تبدو العلاقة وكأنها تتخذ منحىً وظيفيًا ضيقًا، حيث تُختزل إفريقيا في أدوار محددة: كمورد للمعادن، وممر للهجرة، دون اعتبار كافٍ لمكانة القارة كشريك له تطلعات ومصالح متكاملة.
الخلاصة
بين طاولة البيت الأبيض وثروات إفريقيا المدفونة، تتشكّل علاقة جديدة تسعى واشنطن لإعادة رسمها على أسس المصلحة الصريحة والفرصة التجارية المباشرة. لم يكن اللقاء بين الرئيس ترامب والقادة الأفارقة لقاء مجاملة، بل محطة تعبّر عن نهج يتجاوز المساعدات التقليدية ويتجه نحو شراكات انتقائية ترتكز على الموارد والتدفقات البشرية. في هذا المشهد، تبرز تساؤلات جوهرية حول قدرة دول القارة على التفاوض من موقع الندية، ووعيها بكلفة الفراغ الأميركي المتزايد في مجالات التنمية والصحة والتعليم.
لكن في المقابل، لا يمكن تجاهل حقيقة أن منظومة المساعدات الدولية نفسها كانت، في كثير من الأحيان، عبئًا أكثر منها فرصة. فجزء كبير من تلك المساعدات لم يُترجم إلى تنمية مستدامة، بل غذّى شبكات الفساد والإدارة الريعية، وأضعف المبادرات المحلية وأجهض روح الاكتفاء الذاتي.
إنّ التحوّل نحو الشراكات الاقتصادية، رغم ما يحمله من مخاطر الاستغلال أو التبعية الجديدة، قد يُتيح – إذا ما أُحسن توجيهه – فرصة نادرة لإفريقيا لإعادة ضبط علاقتها بالعالم من منطلق الإنتاج لا الاستهلاك، والمبادرة لا التلقي.
في ضوء ذلك، تبدو إعادة تقييم العلاقة مع القوى الكبرى ضرورة استراتيجية. وعلى صانعي السياسات من الشركاء لدول القارة غير التقليديين، كدول الشرق الأوسط، ممن يملكون مصالح اقتصادية وامتدادات ثقافية داخل القارة، أن يواكبوا هذا التحوّل ببرامج استثمارية ذكية، وشراكات حقيقية تتجاوز نماذج المنح والمساعدات المشروطة.
فالقارة الإفريقية اليوم، ليست مجرد ساحة تنافس؛ بل مجال لصياغة نماذج بديلة للتماسك الاقتصادي والتكامل الإقليمي. ومن يقرأ التحوّلات جيدًا، سيفهم أن منطق “الفرص” لا يكفي، ما لم يقترن بمنطق “العدالة”.