الجماعات المسلحة والتنظيمات الجهاديةالأمن والاستقرار

اتفاق السلام في جمهورية إفريقيا الوسطى: بين حسابات أنجمينا وتحديات بانغي

في مشهد يُعيد رسم توازنات السلم في منطقة وسط إفريقيا، شهدت العاصمة التشادية أنْجمينا توقيع اتفاقيتي سلام بين حكومة جمهورية إفريقيا الوسطى وجماعتي العودة والاسترداد والتأهيل (3R)” و”الاتحاد من أجل السلام (UPC)“، في خطوة وُصفت بأنها محاولة جديدة لفك عقدة النزاع المسلح الذي أرهق البلاد منذ عام 2013.

الاتفاق، الذي تمّ برعاية مباشرة من المشير محمد إدريس ديبي إتنو، يحمل دلالات رمزية وسياسية بالغة، سواء في مضمونه أو في الجهة الراعية له.

وعليه، يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على أبعاد هذا المسار الجديد من خلال خمسة محاور تحليلية رئيسة. يبدأ باستعراض الخلفية العامة للنزاع والجماعتين الموقعتين وسجلّهما الدموي، ثم يتناول البنود الأساسية للاتفاق والدلالات السياسية الكامنة فيه، خصوصًا في ضوء إخفاقات سابقة أبرزها اتفاق الخرطوم (2019).

وينتقل التقرير إلى تحليل الدور التشادي المتصاعد في إدارة النزاع الإقليمي، تليها قراءة مركزة لأبرز الرهانات والتحديات التي قد تعيق تنفيذ الاتفاق.

ثم يُختتم بـتقدير استراتيجي يستشرف انعكاسات هذا التحول على الأمن الإقليمي في منطقة بحيرة تشاد والحدود المشتركة، مع تقديم توصيات سياساتية تضمن فرص نجاح هذا المسار وتثبيت مكاسبه على الأرض.

أولا: الخلفية العامة للصراع

منذ عام 2013، تعيش جمهورية إفريقيا الوسطى حالة من النزاع المسلح المزمن، الذي اندلعت شرارته عقب الإطاحة بالرئيس فرانسوا بوزيزي على يد تحالف جماعات متمردة تُعرف باسم سيليكا، وهو تحالف ذو غالبية مسلمة.

وتبع ذلك تصاعد مضاد من ميليشيات مسيحية تُدعى أنتي بالاكا، مما أدخل البلاد في دوامة عنف طائفي دامي أودى بحياة آلاف المدنيين، وأدى إلى نزوح مئات الآلاف داخليًا وخارجيًا، وسط انهيار شبه تام في مؤسسات الدولة.

ورغم نشر قوات أممية لحفظ السلام (MINUSCA) وتدخلات خارجية متعددة، فإن النزاع لم يعرف طريقًا إلى الحل المستدام؛ بل تفككت خريطة التمرد إلى فصائل مسلحة متعددة ذات طابع محلي وإثني، تسيطر على مساحات واسعة من البلاد، وتتنازع على الموارد الحيوية مثل الذهب والماس والمواشي.

ضمن هذا السياق، برزت جماعتا العودة والاسترداد والتأهيل (3R)، و” الاتحاد من أجل السلام في جمهورية إفريقيا الوسطى” (UPC).” كأبرز الفاعلين المسلحين في مناطق الشمال الغربي والوسط الشرقي للبلاد على التوالي:

  • جماعة العودة والاسترداد والتأهيل (3R): تأسست عام 2015 بقيادة سيمبي بوبو (Abdoulaye Miskine/Abdoulaye Abakar Sidick المعروف بـ “بوكو”، وهو ينتمي إلى رقية السارا (قبيلة مشتركة مع تشاد). وتتمركز أساساً في مناطق نانا مبري – باوا – كوي في شمال غرب البلاد، قريبة من الحدود مع الكاميرون وتشاد. انطلقت بزعم حماية المجتمعات المسلمة من انتهاكات “أنتي بالاكا”، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى جماعة تمارس الابتزاز والنهب الممنهج.
  • جماعة الاتحاد من أجل السلام في جمهورية إفريقيا الوسطى (UPC): تأسست عام 2014 بقيادة علي داراسا، وهو شخصية تنتمي إلى طائفة الفولاني، وكان قياديًا سابقًا في “سيليكا”. تنتشر قواته في مناطق ألينداو، بريا، وبامباري، حيث بسط سيطرته على عدة طرق تجارية ومعابر حدودية، وارتبطت جماعته بسوق السلاح والموارد غير القانونية.

في واقع الأمر، تواجه الجماعتان اتهامات موثقة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وفقًا لتقارير أممية ومنظمات حقوقية دولية. وتشمل الانتهاكات:

  • عمليات قتل جماعي للمدنيين.
  • اختطاف واغتصاب، لا سيما ضد النساء والأطفال.
  • الابتزاز ونهب القوافل الإنسانية.
  • فرض ضرائب غير قانونية على السكان المحليين.
  • تجنيد الأطفال، واستخدامهم في القتال أو كرسل واستطلاع.

أدى ذلك إلى إدراج قادة الجماعتين في قوائم العقوبات الدولية، بما في ذلك عقوبات مجلس الأمن التابعة للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.

إخفاق المسارات السابقة

رغم توقيع اتفاق الخرطوم للسلام عام 2019 بين حكومة بانغي و14 جماعة مسلحة – من بينها هاتين الجماعتين، فإنّ الاتفاق فشل في وضع حد للعنف أو دمج الفصائل المسلحة في مؤسسات الدولة. فقد استمرت الخروقات المسلحة، ولم تُنفّذ بنود نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR) إلا جزئيًا.

كذلك باءت مبادرات المصالحة الداخلية بالفشل، بسبب انعدام الثقة، وضعف الآليات التنفيذية، وغياب الإرادة السياسية الحقيقية لدى بعض قادة التمرد، الذين استخدموا الاتفاقات كأدوات لشرعنة وجودهم، أو تحقيق مكاسب مؤقتة دون التزام جوهري بمسارات السلام.

إنّ هذا الواقع المتراكم يُفسر الحذر الذي يُحيط بالاتفاق الجديد الموقّع في أنجمينا، ويضعه أمام اختبار صعب لاستعادة الثقة، وتحقيق اختراق حقيقي في جدار الصراع المتصلب.

ثانيا: البنود الأساسية للاتفاقية والدلالات السياسية

تضمّنت الاتفاقية الموقعة في أنجمينا بين حكومة جمهورية إفريقيا الوسطى والجماعتين خمسة بنود محورية تعكس تطلعًا نحو إنهاء التمرد المسلح وفتح صفحة جديدة من التسوية السياسية، وهي:

  • الوقف الفوري للأعمال العدائية في عموم أراضي جمهورية إفريقيا الوسطى، ما يضع حدًا مبدئيًا للأنشطة القتالية ويوفر فرصة لإعادة الاستقرار في المناطق المتأثرة.
  • تنفيذ برنامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR) تدريجيًا، بما يضمن دمج المقاتلين السابقين في النسيج المدني عبر فرص اقتصادية واجتماعية، وهو بند محوري لتفكيك البنية المسلحة للجماعات.
  • الاعتراف بسلطة الدولة في كافة أرجاء البلاد، بما في ذلك المناطق الخاضعة سابقًا لسيطرة الجماعتين، مقابل ضمانات بالمشاركة في إدارة الشأن العام، ما يشير إلى مقاربة توافقية تجمع بين استعادة السيادة المركزية وتقديم حوافز سياسية للفصائل.
  • إنشاء لجنة مشتركة للمراقبة تحت إشراف مباشر من تشاد، يُعهد إليها بتتبع تنفيذ الاتفاق، وهو ما يعكس تطورًا في آليات الضبط ويمنح الاتفاق بعدًا إقليميًا رقابيًا يُعوّل عليه في كسب الثقة.

ما الجديد في هذا الاتفاق إذاً؟

على خلاف اتفاق الخرطوم (2019)، الذي وُقع برعاية دولية ولم يحقق اختراقًا جوهريًا، يتميّز اتفاق أنجمينا بثلاثة عناصر مهمة، وهي:

  1. تركيزه المحدد على جماعتين فاعلتين فقط، مما يقلل من تشعب الالتزامات ويُعزز فرص التطبيق.
  2. رعاية إقليمية مباشرة من تشاد، بما يمنح الاتفاق ثقلاً واقعيًا على الأرض في ضبط الحدود وحركة المقاتلين.
  3. الالتزام المشترك بإشراك الجماعات في إدارة الشأن العام، وهو تطور يُراهن عليه لتقليص منطق التمرد المسلح مقابل مكاسب سياسية مشروطة بالانخراط السلمي.

بهذه البنود، لا يُعد الاتفاق مجرّد هدنة؛ بل محاولة لإعادة هندسة العلاقة بين الدولة والفصائل على أسس جديدة.

ثالثا: الدور التشادي في تحقيق الاتفاقية

لم يكن اختيار أنجمينا لاحتضان اتفاق السلام بين بانغي والفصائل المسلحة اعتباطيًا؛ بل جاء انعكاسًا لدور تشاد الجيوسياسي المحوري في منطقة وسط إفريقيا، وارتباطها التاريخي العميق بجمهورية إفريقيا الوسطى أمنًا وسياسة وحدودًا.

تشاد، التي تشترك مع إفريقيا الوسطى في حدود طويلة يسهل اختراقها، تدرك أن أيّ اضطراب في جارها الجنوبي لا يبقى محصوراً داخليا؛ بل سرعان ما يتسرّب شمالًا مهددًا استقرار ولاياتها الجنوبية، خصوصًا في ظل هشاشة المنظومات الحدودية وامتداد الشبكات المسلحة.

ويأتي احتضان المشير محمد إدريس ديبي إتنو لهذا الاتفاق ليعكس رغبة القيادة التشادية في إعادة التموضع الإقليمي، خصوصًا بعد انكفاء الدور الفرنسي، وظهور فراغ سياسي وأمني تُحاول دول الجوار ملأه بمنطق السيادة والمسؤولية.

ولقد أسهم المشير في توظيف رمزيته كرئيس شاب يتزعم قوة إقليمية وازنة، لإطلاق مسار دبلوماسي فاعل يُعيد الثقة للوساطات الإفريقية ويؤسس لنموذج جديد من الحلول القارية التي لا تعتمد على الرعاية الغربية فقط.

فمن خلال هذا الدور، جمعت تشاد بين الوساطة السياسية الهادئة من جهة، وبين فرض شكل من أشكال الضبط الإقليمي من جهة أخرى، إذْ تدرك أن التحكم في بيئتها الأمنية الجنوبية يمرّ عبر الانخراط الإيجابي في ديناميات الداخل الإفريقي الأوسطس.

وعليه، فإنّ هذا الاتفاق لا يعكس فقط نجاحًا دبلوماسيًا لتشاد؛ بل يُعد أيضًا تموضعًا استراتيجيًا يعكس نضجًا في فهم طبيعة النزاعات المحيطة وضرورة إدارتها بعقل إقليمي مستقل ومتزن.

رابعا: الرهانات والتحديات

رغم الأهمية الرمزية والسياسية لاتفاق السلام الجديد بين حكومة إفريقيا الوسطى والحركتين، إلا أن تنفيذه على الأرض يواجه مجموعة من الرهانات المعقدة والتحديات الفعلية التي تهدد استقراره واستمراريته.

أولى هذه التحديات تتعلق بمدى جدية الفصائل المسلحة في الالتزام ببنود الاتفاق، خصوصًا في ظل سجل طويل من التنصّل أو استغلال الاتفاقيات السابقة لتكتيكات مؤقتة.

فكل من حركتي “العودة والاسترداد” و”الاتحاد من أجل السلام” تملكان قواعد ميدانية وشبكات تمويل مستقلة، وقد اعتادتا على إدارة مناطق نفوذهما وفق منطق عسكري واقتصادي خاص، ما قد يصعّب عملية تفكيك هذه البنى دون حوافز قوية ومراقبة صارمة.

لا يمكن تجاهل خطر التلاعب السياسي بالاتفاق؛ حيث قد تُستغل لحظة السلام لكسب وقت أو مكاسب ظرفية دون نية حقيقية لإنهاء الصراع.

أما على مستوى الدولة، فإن موقف حكومة بانغي يبدو موزعًا بين الانفتاح الرسمي على التسوية، والارتباط الوثيق بشريكها العسكري الأبرز: قوات “الفيلق الإفريقي” الروسية (فاغنر سابقا)، التي تمسك بالعديد من مفاتيح القرار الأمني.

وهذه المعادلة تعقّد ديناميات السلطة، وقد تثير توترًا مع أطراف الاتفاق الجدد إذا شعرت تلك الفصائل أن وجودها سيكون صوريًا أو خاضعًا لهيمنة طرف ثالث لا تثق به. وفي السياق ذاته، يبرز تحدي إدماج المقاتلين السابقين ضمن أجهزة الدولة، سواء في القطاعات الأمنية أو الإدارية.

فهذا المسار يتطلب موارد مالية وبنية قانونية وإرادة سياسية طويلة النفس، وهي شروط لم تتوفر بالكامل في تجارب سابقة، مما يدفع البعض للتشكيك في إمكانية تكرار السيناريو بنجاح دون دعم دولي واضح وتخطيط دقيق.

وأخيرًا، لا يمكن تجاهل خطر التلاعب السياسي بالاتفاق؛ حيث قد تُستغل لحظة السلام لكسب وقت أو مكاسب ظرفية دون نية حقيقية لإنهاء الصراع. مثل هذه التوظيفات، إذا لم تُضبط، قد تعيد إنتاج الأزمة في أشكال أكثر خطورة، وتُفقد المجتمع ثقته في جدوى الحوار الوطني والتسويات السياسية.

خامسا: انعكاسات الاتفاق على الأمن الإقليمي

يحمل اتفاق السلام الموقّع مؤخرًا بين حكومة إفريقيا الوسطى والحركتين المتمردتين برعاية تشادية، أبعادًا تتجاوز الداخل المركزي إلى مشهد أمني إقليمي هش يمتد من أعالي “فاكاغا” شمالًا إلى أحزمة العبور جنوب تشاد وغرب السودان والكاميرون.

إن هذه المناطق لم تعد فقط فضاءات لارتداد العنف من إفريقيا الوسطى؛ بل باتت مسارح حيوية للتنقل غير النظامي للسلاح والمقاتلين، وهو ما جعل من الحدود الثلاثية بين تشاد والكاميرون وإفريقيا الوسطى، والامتداد الشرقي نحو السودان، واحدة من أعقد جبهات التهديد العابر للدول.

إنّ نجاح التجربة هنا قد يشكل نقطة انطلاق لمسارات حوار مشابهة، شرط توافر وساطة محايدة، ومقاربة أكثر تكاملًا تعترف بالأسباب البنيوية للعنف وتتعامل مع الفاعلين المحليين كأطراف شركاء في إعادة صياغة الدولة.

وفي هذا السياق، يُمثّل الاتفاق الجديد فرصة استراتيجية لتجفيف منابع التهديد التي تنطلق من الأراضي الوسطى نحو الجوار الإقليمي. فوقف الأعمال العدائية، وانخراط الفصائل المسلحة في مسارات نزع السلاح وإعادة الإدماج، قد يخفف من وتيرة النزوح القسري، وتهريب السلاح، واستغلال الممرات الجبلية والغابية لنقل مقاتلين أو شن هجمات مفاجئة عبر الحدود.

كما أنّ تثبيت سلطة الدولة في الداخل وتفكيك هياكل التمرد المسلح من شأنه أن يقلّص الطلب على الاقتصاديات غير المشروعة التي تتغذى منها الشبكات الإجرامية عبر الحدود.

أما على المستوى الإقليمي، يبرز الاتفاق كتجربة قابلة للتوسعة نحو مناطق أخرى تشهد تمردًا نشطًا، مثل مقاطعة “فاكاغا” ذات العمق الجغرافي الخطير المحاذي للسودان، و”برِيا” التي تمثل نقطة التقاء لعوامل الإثنية والتهميش والجريمة المنظمة.

فإنّ نجاح التجربة هنا قد يشكل نقطة انطلاق لمسارات حوار مشابهة، شرط توافر وساطة محايدة، ومقاربة أكثر تكاملًا تعترف بالأسباب البنيوية للعنف وتتعامل مع الفاعلين المحليين كأطراف شركاء في إعادة صياغة الدولة.

ولضمان ديمومة هذه المسارات، يمكنا أن نوصي بثلاثة توجهات أساسية، وهي:

  • أولًا، تعزيز آليات الرصد والمتابعة الدولية للاتفاق بما يحميه من الانحراف أو التوظيف السياسي.
  • ثانيًا، توجيه الموارد نحو دعم المجتمعات المحلية – لا سيما في المناطق المتأثرة بالنزاع – عبر مشروعات إنمائية سريعة الأثر.
  • ثالثًا، الحفاظ على حياد الوسيط التشادي وضمان ألا يتحول من طرف مساعٍ إلى طرف مصلحة، خصوصًا في ظل ما تشهده المنطقة من تحولات في التوازنات الإقليمية والدور الخارجي، وسجله التاريخي في ذلك.

إنّ الرهان الحقيقي لهذا الاتفاق لا يكمن فقط في توقيعه؛ بل في تحويله إلى رافعة لتحوّل أمني أوسع في قلب إفريقيا. ولعلّ الفرصة – وإن بدت محفوفة بالعراقيل – ما زالت سانحة لترسيخ نهج جديد في إدارة ما بعد الصراعات، حيث تُصبح الجغرافيا عامل استقرار لا بوابة للانفجار.

زر الذهاب إلى الأعلى