الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية

اتفاق السلام بين رواندا والكونغو في واشنطن: توقيع تاريخي ومخاوف مؤجلة

في خطوة وُصفت بأنها الأهم منذ أكثر من ثلاثة عقود، وقّعت جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا اتفاق سلام طال انتظاره، وذلك في العاصمة الأمريكية واشنطن، تحت رعاية مباشرة من الإدارة الأمريكية. وجاء هذا التوقيع بعد سنوات من الصراع المسلح في شرق الكونغو، أودى بحياة الآلاف وشرّد مئات الآلاف من المدنيين.

الاتفاق، الذي وقعته وزيرة الخارجية الكونغولية تيريز كايكوامبا فاغنر ونظيرها الرواندي أوليفييه ندوهونغيريهي، تم في مبنى وزارة الخارجية الأمريكية، في حضور كبار المسؤولين الأمريكيين، من بينهم نائب الرئيس جي دي فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، وتوّج بتوقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب داخل البيت الأبيض، واصفًا الاتفاق بأنه “انتصار مجيد” و”اختراق دبلوماسي بالغ الأهمية”.

الاتفاق ينص، وفق ما أُعلن، على “فك الاشتباك، ونزع سلاح الجماعات المسلحة، ودمجها المشروط”، ويهدف إلى إنهاء العنف المزمن في منطقة البحيرات الكبرى، لا سيما في الأقاليم الشرقية من الكونغو التي تشهد تصعيدًا مستمرًا منذ مطلع هذا العام.

يأتي هذا الإنجاز بعد إعلان سابق في أبريل الماضي عن “إعلان مبادئ” بين الطرفين، مهّد الطريق للتوقيع النهائي. كما جاءت هذه الخطوة تتويجًا لوساطة متعددة الأطراف بدأت في الدوحة، حيث توسطت قطر بين الرئيسين في جلسات سرية، وأعقبها تشكيل لجنة مشتركة مدعومة أمريكيًا.

ورغم الأجواء الاحتفالية التي أحاطت بالتوقيع، لا تزال تفاصيل الاتفاق غامضة، الأمر الذي يثير تساؤلات حول قدرة الاتفاق على الصمود في وجه التعقيدات الميدانية. فالتوترات الأخيرة بين البلدين تفجرت بعد سيطرة متمردي حركة M23، المدعومة من رواندا بحسب تقارير الأمم المتحدة، على مناطق استراتيجية مثل مدينة غوما وبوكافو ومطارات محلية. وقد اتهمت كينشاسا رواندا بإرسال ما لا يقل عن 7,000 جندي إلى أراضيها، وهو ما تنفيه كيغالي بشدة، وتُرجعه إلى “إجراءات دفاعية” في وجه تهديدات من جماعة FDLR الهوتوية.

وفي محاولة للرد على هذه التطورات، لجأت الحكومة الكونغولية إلى الولايات المتحدة، وعرضت تسهيلات استثمارية تتعلق بالمعادن النادرة، مثل الكولتان والكوبالت، مقابل ضمانات أمنية. وتمثل هذه الموارد أهمية استراتيجية لصناعة التكنولوجيا العالمية، ما يفسر جزئيًا الاهتمام الأمريكي بتأمين الاستقرار في هذه المنطقة الغنية.

وقبيل ساعات من التوقيع، أصدرت الخارجية الرواندية بيانًا غاضبًا انتقدت فيه تسريب مسودة الاتفاق، مؤكدة أنه “لا وجود لأي إشارة إلى الجيش الرواندي أو انسحاب القوات”، بينما أشار مكتب الرئيس الكونغولي في تصريح لاحق إلى أن مصطلح “فك الاشتباك” قد استخدم بديلًا عن “الانسحاب”، نظراً لشموليته.

ويُعد بند “عودة اللاجئين والنازحين داخليًا” من أبرز البنود الإنسانية في الاتفاق، حيث يُفترض أن يفتح الباب أمام إعادة عشرات الآلاف من الفارين من مناطق النزاع. غير أن مراقبين يشككون في قدرة الاتفاق على إقناع متمردي M23، الذين لم يشاركوا في المفاوضات الرسمية، بالانسحاب أو نزع السلاح.

وقد سبق لحكومتي الكونغو ورواندا أن توصلتا إلى تفاهمات مماثلة برعاية أنغولا العام الماضي، إلا أن الاتفاقات ظلت حبرًا على ورق بعد فشل الوزراء في المصادقة عليها، مما دفع أنغولا إلى الانسحاب من الوساطة.

رغم التحديات، لم يُخفِ الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسيكيدي تفاؤله، معتبرًا هذا الاتفاق “الإنجاز الدبلوماسي الأهم منذ أكثر من ثلاثين عامًا”، بينما أعرب نظيره الرواندي بول كاغامي عن التزامه بـ”فتح صفحة جديدة”، دون أن يحدد جدولاً زمنيًا للخطوات التنفيذية.

أما في العاصمة واشنطن، فقد اعتبر الرئيس ترامب الاتفاق فرصة استراتيجية للسلام والتنمية، مشيدًا بموقف قطر وبدور الولايات المتحدة في إنجاح الوساطة.

ومع أنّ اتفاق واشنطن لا يقدّم كل الإجابات، إلا أنّه يؤسس لنقطة بداية جديدة في مسار شائك، تراهن عليه أطراف متعددة لإطفاء نيران صراع طال أمده، وتجنيب المنطقة مزيدًا من الانهيار الإنساني. لكن تبقى أعين المجتمع الدولي، والشارع الكونغولي، مشدودة نحو التطبيق على الأرض، حيث يُختبر السلام الحقيقي.

سلامٌ هش فوق حقول الكوبالت

رغم الزخم السياسي والإعلامي الذي رافق توقيع اتفاق السلام بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية في واشنطن، تظل العديد من مؤشرات القلق ماثلة أمام أي قراءة واقعية للتطور.

فالوثيقة الموقّعة، وإن حملت لغة دبلوماسية مطمئنة – مثل “الانسحاب” و”احترام السيادة” و”نزع السلاح” – فإنها لا تنص بشكل صريح وملزم على الآليات التنفيذية، ولا تحدد إطارًا زمنيًا واضحًا لتطبيق البنود، ولا تُلزم الطرفين بمسؤوليات محددة تجاه الجماعات المسلحة، وعلى رأسها M23 وFDLR.

أحد أبرز مواطن الضعف هو غياب تمثيل فعلي لمكونات الصراع المحلية. فرغم أن الدولة الرواندية والمفاوض الكونغولي هما طرفا الاتفاق، فإن الجماعات المسلحة الفعلية – التي تمتلك الأرض والسلاح والرؤية الميدانية – لم تكن على الطاولة. وهذا يعيد إنتاج فشل اتفاقيات سابقة مثل اتفاق نيروبي 2009 وكمبالا 2013، حيث جرى تجاهل الديناميات الداخلية والاكتفاء بواجهات سياسية.

كذلك، فإن التقاطع الدولي في هذا الاتفاق يثير علامات استفهام. الربط بين “السلام” و”الوصول الأمريكي إلى المعادن الحرجة” يعيد إلى الأذهان صفقات القوة الناعمة التي كثيرًا ما تمّت في القارة باسم “الاستقرار”، لكنها وُظّفت لتحقيق مصالح استراتيجية لطرف واحد. ومجرد غياب أي بند علني حول مساءلة الدول المتورطة في دعم جماعات مسلحة – رغم تقارير موثقة عن تورط رواندا – يكشف هشاشة بنية الاتفاق.

إضافة إلى ذلك، فإن اعتماد واشنطن كمركز للمفاوضات، وتراجع الدور الإفريقي – خصوصًا أن أنغولا خرجت من الوساطة سابقًا – يعكس اختلالًا في مبدأ “حلّ إفريقي لمشكلات إفريقيا”. هذا يفتح المجال أمام مقاربات خارجية لا تعي بالضرورة تعقيدات النسيج المحلي في كيفو الشمالية أو إيتوري.

في المجمل، الاتفاق يُعدّ فرصة سياسية لا ينبغي تبديدها، لكنه يفتقر إلى الإجماع المحلي، وإلى ضمانات دولية محايدة، وإلى هندسة مؤسسية قابلة للتنفيذ. وإذا لم يتطور سريعًا إلى عملية شاملة تتضمن العدالة، والمساءلة، وبرامج نزع السلاح، وإعادة الدمج، فإنه مرشح لأن يُضاف إلى قائمة الاتفاقيات المنسية في ذاكرة النزاع الإفريقي الطويل.

زر الذهاب إلى الأعلى