حين لا تموت الخصومة: جنازة إدغار لونغو تثير أزمة سياسية في زامبيا

في تطور غير معتاد على الساحة الإفريقية، تحوّلت وفاة الرئيس الزامبي السابق إدغار لونغو إلى حدث سياسي وإعلامي تجاوز طقوس الحداد التقليدية، بعدما أعلنت عائلته دفنه في جنوب إفريقيا بدلًا من زامبيا، الدولة التي تولّى قيادتها لست سنوات.
لقد أثارت الخطوة المفاجئة جدلاً في الداخل الزامبي، وكشفت عن توتر دفين بين العائلة الرئاسية السابقة والحكومة الحالية، في لحظة كان يُفترض أن توحّد فيها الوفاة البلاد تحت مظلة الحزن الوطني.
زامبيا، الدولة غير الساحلية الواقعة في الجنوب الأوسط للقارة الإفريقية، وتحدها ثماني دول، تُعرف تاريخيًا بانتقالاتها السلمية للسلطة منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1964. وهي تعد من الدول القليلة في المنطقة التي حافظت على مسار ديمقراطي نسبي منذ التسعينيات.
إدغار لونغو (11 نوفمبر 1956 – 5 يونيو 2025)، شغل منصب الرئيس السادس للبلاد من عام 2015 حتى هزيمته في الانتخابات عام 2021 أمام المعارض هاكايندي هيشيليما، ليبقى بعدها شخصية سياسية نشطة ومؤثرة.

خلافات عائلية وسياسية تُخرج الجثمان من الوطن
أُعلن عن وفاة إدغار لونغو في أحد مستشفيات جنوب إفريقيا هذا الشهر، بعد إصابته بمرض لم يُكشف عنه رسميًا. ومنذ لحظة الوفاة، بدأت ترتسم ملامح خلاف بين العائلة والحكومة حول ترتيبات الجنازة. العائلة – بحسب محاميها والمتحدث الرسمي ماكيبي زولو – طلبت أن تُقام جنازة خاصة في جنوب إفريقيا، رافضة حضور الرئيس الحالي هاكايندي هيشيليما.
واستند القرار إلى “رغبة الأسرة في احترام إرث الراحل“، بحسب ما أُعلن عنه؛ لكنه عكس أيضاً حجم التوتر بين الطرفين، خاصة في ظل تاريخ من العداء السياسي.
وقد شكرت الأسرة الحكومة الجنوب إفريقية على “تفهمها وتسهيلها” لترتيبات الدفن، معتبرةً أن ذلك “يحترم خياراتها وظروفها”. وبهذا الإعلان، أُسدل الستار على احتمال تنظيم مراسم رسمية داخل زامبيا، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الدولة؛ حيث دُفن جميع رؤساء البلاد السابقين على أراضيها. فالحدث، الذي كان من المفترض أن يتحول إلى لحظة وحدة وطنية، أخذ منحى مغايرًا تمامًا.
الحكومة ترد: حداد وطني مُلغَى، وحرص على الاستقرار
لم يتأخر ردّ فعل الدولة، إذْ أعلن الرئيس هيشيليما – الذي تولى السلطة في أغسطس 2021 بعد فوزه الساحق في الانتخابات – إلغاء الحداد الوطني الذي سبق وأُعلن لمدة 16 يومًا. وفي خطاب متلفز، قال:
“زامبيا لا يمكنها أنْ تبقى في حالة حداد إلى ما لا نهاية”، مضيفًا أن حكومته حاولت التواصل مع الأسرة بكل السبل؛ لكن القرار النهائي يجب أن يُتخذ من أجل استقرار البلاد.
وأوضح الرئيس أنّ الحكومة كانت مستعدة لتقديم كل الدعم اللوجستي والرمزي اللازم، مشيرًا إلى أن الدولة “لن تعرقل قرار العائلة”؛ لكنها في الوقت نفسه “ملزمة بالحفاظ على النظام العام والوضوح في مؤسسات الدولة”.
الرئيس هاكايندي هيشيليما، المعروف بخلفيته الاقتصادية (رجل أعمال ومختص بالاقتصاد الزراعي)، دخل الحياة السياسية منذ أوائل الألفية، وخاض خمس محاولات انتخابية قبل أن ينجح في 2021. علاقته بإدغار لونغو لم تكن سلسة قط، خاصة بعدما اتهم في 2017 بمحاولة قلب نظام الحكم في عهد لونغو، واعتُقل لفترة وجيزة بتهمة “الخيانة”، ما أضاف بعدًا شخصيًا للخلاف السياسي.
صدى سياسي في الداخل وتساؤلات عن المصالحة الوطنية
داخل الأوساط السياسية الزامبية، تراوحت ردود الفعل بين التعاطف مع العائلة والقلق من تسييس الوفاة. فبينما عبّر بعض السياسيين المعارضين عن تفهمهم لموقف الأسرة، رأى آخرون أن ما حدث “فرصة ضائعة” لتأكيد احترام المؤسسات وتكريم الرؤساء السابقين بشكل يليق بتاريخهم. بالمقابل، اعتبر أنصار الحكومة أن الخطوة تعكس “حسابات سياسية ضيقة”، كان يمكن تجاوزها عبر حوار وطني هادئ.
إنّ دفْن رئيس دولة خارج بلاده، خاصة في حالة مثل زامبيا ذات الطابع الديمقراطي والمؤسساتي، لا يُعدّ مجرد إجراء لوجستي؛ بل له رمزية عميقة تتعلق بالذاكرة الجماعية، والقدرة على طي صفحات الخلاف السياسي عند لحظات الوفاة، لصالح تأسيس ذاكرة وطنية مشتركة.
وفي وقتٍ تواجه فيه زامبيا تحديات اقتصادية متزايدة، أبرزها ارتفاع مستويات الديْن العام وضعف النمو، تأتي هذه الأزمة لتسلّط الضوء على هشاشة الروابط السياسية في لحظات مفصلية، وتطرح سؤالًا أوسع حول استعداد النخب الإفريقية لإدارة الخلافات بأساليب حضارية وتوافقية.
ذاكرة حية من الانقسام
فرحيل إدغار لونغو لا يُغلق صفحة الرجل في السياسة الزامبية، فهو ما زال يحظى بتأييد ملموس، خاصة في بعض الأقاليم الشرقية، وتاريخه يعكس مرحلة انتقالية بين سياسات ما بعد التحرر والإدارة التكنوقراطية الحديثة.
كما أنّ المشهد يعكس مفارقة مؤلمة، فالرجل الذي قضى حياته في مؤسسات الدولة، يُدفن في أرض غير أرضه، ويغيب جسده عن العاصمة التي قادها لسنوات.
وبغضّ النظر عن الخلفيات، تبقى هذه الحادثة نقطة فارقة في تاريخ زامبيا السياسي، وتذكيرًا بأنّ احترام الرموز السياسية في لحظة وفاتهم لا يقتصر على المراسيم فحسب؛ بل هو اختبار لقدرة الدولة على الترفع عن الخصومات حين يستدعي الأمر ذلك.
وبينما تُطوى صفحة لونغو بجنازة في المنفى، تفتح البلاد صفحة جديدة في تاريخها السياسي، وسط مراقبة إقليمية لما ستؤول إليه الأمور في الأيام المقبلة.
ومع إسدال الستار على هذه الجنازة غير التقليدية، يظل المشهد الزامبي مفتوحًا على تساؤلات تتجاوز اللحظة الآنية. فهل كان لزامبيا أن تتفادى هذا الشرخ الرمزي لو سادت لغة المصالحة بدل الحذر السياسي؟ وهل باتت الذاكرة الوطنية رهينة الصراعات الشخصية؟ ثم، كيف تؤثّر هذه السابقة على علاقة الدولة بمؤسساتها الرمزية في المستقبل؟ وهل سيظل الموت في إفريقيا حدثًا سياسيًا بامتياز؟
_______
للمزيد من هذا النوع من المقالات، يمكنك تصفح مرصد الوعي من هنا