دور السلاح العابر للحدود في تغذية الحرب في السودان

تدفقات السلاح العابر للحدود تُبقي الحرب في السودان مشتعلة بلا أفق واضح للحل، في ظل تعقيدات سياسية وأمنية تتجاوز الداخل وتعمّق المأساة الإنسانية. لم يعد النزاع محصورًا في مواجهة بين قوات مسلحة داخلية فحسب؛ بل بات جزءًا من شبكة معقدة من المصالح الإقليمية والدولية، تُغذيها تدفقات السلاح الخارجي وتُضاعف آثارها التدخلات غير المباشرة.
إنّ تقرير البعثة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق، الذي قُدم إلى مجلس حقوق الإنسان، يكشف عن مستوى متقدم من الانفلات، مع تصاعد القصف في المناطق المدنية، وارتفاع كبير في معدلات العنف الجنسي، واستمرار حصار المنشآت الصحية، في ظل انقسامات داخلية عميقة وصمت دولي متواصل.
فالبيانات التي وردت في التقرير توضح أن الأسلحة لا تزال تتدفق إلى طرفي النزاع، وأن هذه الإمدادات أسهمت في توسيع دائرة العنف، خاصة في دارفور ومحيط العاصمة الخرطوم. وفي الوقت نفسه، يشير التقرير إلى أن المساعدات الإنسانية تحولت إلى أداة من أدوات الصراع، إما عبر عرقلتها أو استخدامها لتثبيت السيطرة العسكرية في مناطق النزاع.
في هذا السياق، يأتي هذا المقال ليسلط الضوء على مسألتين رئيسيتين، تعُدان من بين أبرز أسباب استمرار القتال وتدهور الوضع العام في السودان. الأولى تتعلق بالدور المباشر لتدفقات السلاح العابر للحدود في إطالة أمد الحرب، والثانية ترتبط باستخدام العنف الإنساني وسيلة ضغط سياسي من خلال التجويع وحرمان المجتمعات المحلية من الرعاية الأساسية.
السلاح العابر للحدود وقود للحرب
إنّ الحرب في السودان اليوم، تبدو كصراع محلي؛ ولكنها تطلّ بوجه آخر يشير إلى تدخل خارجي من خلال تدفقات مستمرة للأسلحة الثقيلة والمختلفة. مثل: دبابات، وطائرات مسيّرة، ومركبات مصفّحة. وقد أكدت منظمات حقوق الإنسان والمؤسسات الأممية أن هذه الإمدادات القادمة من الخارج تمد الحرب بشريان حياة لا ينضب، مما يقطع الطريق أمام أي تهدئة حقيقية.
فتحول النزاع السياسي إلى حرب مفتوحة تم اجتراحها باستخدام أدوات قتالية حديثة، بما في ذلك الطائرات المسيّرة والقذائف الثقيلة على الأحياء والمدارس والمساجد. وهذه التحوّلات أساسية في تصعيد الصراع وتمدّده الزمني.
كلما يطول عمر الحرب بيوم واحد، كلما غدا ضحاياها أرقاماً قاتمة تتوزّع بين القتلى والنازحين والمهجّرين والمنتظرين في مخيمات لا تنتهي.
ومن بين المصادر الدولية المسؤولة عن هذا السلاح العابر للحدود، هي: دولة الإمارات (داعمة لـقوات الدعم السريع)، وتركيا (تزود الجيش بالطائرات المسيرة Bayraktar TB2)، إضافة إلى مصر وروسيا وإيران التي زودت الجيش بطائرات Mohajer-6 المسيّرة. هذه الأدوات وصلت رغم الحظر المفروض منذ 2005، ما يدلّ على امتلاء طرق التهريب ونظام العقوبات المتعثر.
فالنتيجة المباشرة لهذا التدفق هي تغيّر دائم في توازن القوى بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع؛ لكن دون تحقيق أيّ تقدم حقيقي نحو الحل. فكل دفعة سلاح تُعيد رسم الخريطة الميدانية، بينما تستمر المعركة من دون حسم.
علاوة على ذلك، لقد أدى هذا التسليح إلى تمدّد الحرب إلى مناطق جديدة، مثل: دارفور وشمال كردفان وغيرها من مناطق، حتى لم تعد هناك مناطق آمنة. وحتى في المناطق التي تحكمها أطراف متحالفة، يُخشى أن تكون الأسلحة مخبأة لأجل فترة لاحقة من القتال أو لأغراض تنكيل بالسكان.
وفي نهاية المطاف، يمكننا القول أنه كلما يطول عمر الحرب بيوم واحد، كلما غدا ضحاياها أرقاماً قاتمة تتوزّع بين القتلى والنازحين والمهجّرين والمنتظرين في مخيمات لا تنتهي.
العنف كسلاح سياسي وإنساني
الجبهة الثانية لصراع السودان لا تحمل راية السلاح أو ملامحه؛ بل هي ساحة معركة يومية يخوضها الجوع والمرض والعلل الاجتماعية. فالمساعدات الإنسانية، التي يفترض أن تأخذ طابع الحيادية، أصبحت طرفاً فاعلاً في الصراع، حيث تُستخدم كورقة ضغط بيد أطراف النزاع.
لقد فرض الجيش قيوداً بيروقراطية صارمة على ضوابط إيصال البضائع والدواء، فأغلقت المستودعات وتأجّل وصول شحنات الوقود. من جهتها، قوات الدعم السريع صادرت ونهبت القوافل، وحتى منعت بعضها من التحرك نهائيًا، مما أدى إلى تفاقم أزمة الجوع في دارفور، حيث تحوّلت المناطق النائية إلى مزارع موتٍ سري بلا ضجة.
والهجوم على المنشآت الصحية تجاوز كونه حادثًا عرضيًا، إلى تكتيك عسكري يستخدم لتقويض قدرة الطرف الآخر على الاحتفاظ بالسيطرة وتثبيت الحضور. فقصف المستشفى السعودي في الفاشر، ومهاجمة عيادة في شمال كردفان، تُظهر أن انهيار النظام الصحي بات جزءاً من منهج الحرب وليس خطأ فرديا.
فعلى الرغم من التوثيق الواسع لهذه الانتهاكات، لا تزال دول العالم تتعامل مع الأمر بكثير من التردد، وما تزال الخسارات الكبرى بالدم لا تُقاس بمحاكمات أو قيود، بل تتعامل معها بصمت أو بطلبات إحاطة دبلوماسية خجولة.
ففي غياب رقابة دولية فعالة، تعمل الأطراف المتنافسة على تحويل السكان إلى أدوات ضغط، وليس فقط إلى ضحايا حرب. الجوع، المرض، والاغتصاب، لم يعودوا مجرد نتائج جانبية، بل أصبحوا جزءًا من أساليب السيطرة العسكرية.
الخاتمة
في ضوء ما كشفه تقرير بعثة تقصّي الحقائق الدولية، وما وثقته من وقائع متراكمة على الأرض، يتّضح أن الحرب في السودان لم تعد نزاعًا داخليًا فحسب، بل صارت صراعًا مُركّبًا تُغذّيه آليات خارجيّة، وتُؤبّده منظومات مصالح تتجاوز حدود الدولة السودانية. تدفّقات السلاح العابرة للحدود، واستهداف الرعاية والاحتياجات الأساسية للسكان، ليست مجرّد أعراض، بل أدوات فاعلة في هندسة المشهد الميداني والإنساني معًا.
إنّ مأساة السودان تُحيلنا إلى لحظة تأمّل سياسي وأخلاقي، تدعو الأطراف الدولية غير المنخرطة في النزاع – أو الأقل تورطًا – إلى التقدّم بخطاب أكثر مسؤولية، يتجاوز الإدانة اللفظية، نحو دعم مسارات الحظر العملي لتجارة السلاح في مناطق النزاع، وتحصين الممرات الإنسانية من أدوات الضغط والتوظيف. فغياب المساءلة في مثل هذه الحروب لا يفضي إلى النسيان، بل يكرّس دورة العنف، ويُضعف كل إمكان لبناء سلام حقيقي.
قد لا تملك الدول الإقليمية والدولية البعيدة القرار الكامل لوقف الحرب، لكنها تملك – يقينًا – أدوات تعطيل تغذيتها، والحدّ من آثارها، ومنع تحوّل السودان إلى مختبر مفتوح لإعادة إنتاج الفوضى المسلحة في القارة.
________
مصادر يمكن الرجوع إليها
- مجلس حقوق الإنسان – بعثة تقصي الحقائق الدولية الخاصة بالسودان
United Nations Human Rights Council – Sudan Fact-Finding Mission
https://www.ohchr.org/en/press-releases/2024/06/sudan-war-fact-finding-mission-reports-violations - أخبار الأمم المتحدة – الحرب في السودان تتفاقم بسبب تدفق السلاح الخارجي
UN News – Sudan war fuelled by external arms flow
https://news.un.org/en/story/2024/06/1140252 - هيومن رايتس ووتش – جرائم حرب واسعة النطاق في السودان
Human Rights Watch – Sudan: Widespread War Crimes Against Civilians
https://www.hrw.org/news/2024/05/22/sudan-widespread-war-crimes-against-civilians - منظمة العفو الدولية – المدنيون في السودان تحت وطأة انتهاكات مروعة
Amnesty International – Armed conflict exposes civilians to grave abuses
https://www.amnesty.org/en/latest/news/2024/05/sudan-civilian-abuses-rsf-saf/ - بحث تتبع الأسلحة – مركز أبحاث تسليح النزاعات
Conflict Armament Research – Weapon supplies in Sudan
https://www.conflictarm.com/publications/ - بي بي سي – تحقيق حول الطائرات المسيّرة في السودان
BBC Investigation – Sudan conflict: Drones from Iran, Turkey and UAE
https://www.bbc.com/news/world-africa-68419484 - الجزيرة – اتهامات للإمارات بدعم قوات الدعم السريع بالسلاح
Al Jazeera – UAE accused of supplying weapons to RSF
https://www.aljazeera.com/news/2024/3/20/uae-accused-of-supplying-weapons-to-rsf - الغارديان – دور التكنولوجيا الأجنبية في الحرب السودانية
The Guardian – Drone warfare in Sudan: Role of foreign technology
https://www.theguardian.com/world/2024/mar/11/drones-sudan-conflict-russia-turkey - أطباء بلا حدود – الهجمات على المستشفيات في السودان
Médecins Sans Frontières – Sudan hospitals under attack
https://www.msf.org/sudan - مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية – نظرة عامة إنسانية على السودان
UN OCHA – Sudan Humanitarian Overview (2024–2025) https://reliefweb.int/country/sdn