نيكولا ساركوزي بلا وسام: سقوط رمزي يتجاوز فرنسا

لم يكن تجريد الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي من وسام جوقة الشرف (Légion d’honneur) مجرّد إجراء بروتوكولي صادر عن مرسوم رسمي في الجريدة الحكومية، بل لحظة رمزية مكثّفة تكشف عن تعقّد العلاقة بين السلطة، والمسؤولية، والذاكرة. فحين يُنزع عن رأس دولة سابق وسام الجمهورية الأعلى، بعد إدانته بالفساد واستغلال النفوذ، يصبح الحدث أكبر من شخص ساركوزي نفسه.
إنه مرآة سياسية وأخلاقية في آن، تنعكس فيها حسابات الداخل الفرنسي، كما تنكسر عليها – أيضًا – ظلال الحضور الفرنسي الخارجي، وخاصة في إفريقيا، حيث لا تزال آثار “الساركوزية” تئن تحت الركام.
المثير هنا أن القرار الفرنسي أتى في لحظة تعيد فيها إفريقيا، ولو ببطء، النظر في موازين علاقتها مع باريس، على وقع الانقلابات، وانهيار التحالفات، وتراجع النفوذ الفرانكفوني. وإن كان تجريد ساركوزي رسالة عدالة داخلية، فإن صداه الإفريقي لا يقل أهمية، لأن الرجل لم يكن طيفًا عابرًا في شؤون القارة، بل لاعبًا فعليًا في لحظات مفصلية، منها حرب ليبيا، وعلاقات النيجر، وغضّ الطرف عن شبكات التأثير المالي العابر للحدود.
وانطلاقًا من هذا المشهد الذي تتقاطع فيه الرمزية الوطنية مع الحسابات الدولية، يناقش هذا المقال ثلاث قضايا مترابطة. أولها أبعاد القرار في السياق الفرنسي الداخلي وما يحمله من دلالات سياسية عميقة. وثانيها أثر العدالة المتأخرة على صورة النخبة السياسية ومكانة القانون في الجمهورية. وأخيرا، وهو الأهم من زاوية النظر الإفريقية، صدى هذا القرار في الوعي الجمعي للقارة التي لم تكن يومًا على هامش ممارسات ساركوزي، بل في قلب مشاريعه وصراعاته.
سقوط الرموز لا يحدث بالصدفة
إنّ تجريد ساركوزي من الوسام الأعلى في الجمهورية لم يكن مجرّد تنفيذ لنص قانوني يقضي بحرمان المدانين بالفساد من الامتيازات الشرفية. بل كان – في جوهره – تتويجًا لمسار تراكمي من فقدان الثقة العامة في النخبة السياسية الفرنسية، التي لطالما رفعت شعار الأخلاق والمساءلة، لكنها كثيرًا ما ترددت في تطبيقه على من هم في قمة الهرم. وهنا، تبدو فرنسا كمن تستعيد شيئًا من صورتها الأخلاقية المتآكلة، من خلال محاسبة رموزها، لا سيما حين يكون الرمز رئيسًا سابقًا.
لكن في المقابل، لا يمكن فصل هذه اللحظة عن المعارك السياسية الجارية داخل فرنسا. فالحزب الجمهوري المحافظ – الذي ما يزال ساركوزي يتمتع فيه بكلمة ثقيلة – يمر بأزمة قيادة ورؤية، وقد جاء هذا القرار ليضيف ثقلًا سلبيًا على رصيده، ويغذّي الخطاب الشعبوي الذي طالما اتهم النخب بالتحصن خلف الامتيازات. واللافت أن الحكومة الفرنسية لم تُردف القرار بخطاب سياسي مُصاحب، ما جعله يبدو أقرب إلى عملية “تطهير رمزي” منه إلى لحظة مراجعة وطنية صريحة.
الفرنسي العادي، الذي يتابع تراكم قضايا الفساد من “بيغماليون” إلى “التمويل الليبي”، لم يعد يرى في الرموز القديمة مصدر فخر، بل عبئًا أخلاقيًا على ضمير الجمهورية. وبهذا المعنى، لا يكون تجريد الوسام مجرد عقوبة إدارية، بل تحللًا تدريجيًا من إرث سياسي فقد شرعيته الرمزية. ولذلك، فإن لحظة سقوط الوسام لا تُقاس بما أُزيل من صدر ساركوزي، بل بما أُزيح من صدور الفرنسيين من صمت ثقيل.
وبينما يستبشر البعض بأن العدالة تأخذ مجراها، لا يمكن التغافل عن أن هذا القرار تأخر أكثر من عقد كامل منذ مغادرة الرجل منصبه. فهل تعوّض الرمزية المتأخرة عن تأخّر المحاسبة؟ أم أنّ ما يُحذف من التاريخ الرسمي لا يُمحى من الذاكرة السياسية للأمم؟
عدالة بلا تطهير سياسي؟
الجدل الذي رافق قضية ساركوزي، بدءًا من الإدانة القضائية وصولًا إلى التجريد الرمزي، أعاد فتح النقاش حول طبيعة العدالة الفرنسية: هل هي مستقلة فعلاً؟ وهل تنبع من مبدأ المساواة أمام القانون؟ أم أنها تُمارَس بطريقة انتقائية حين تتقاطع المصالح أو تتراجع حصانة النفوذ؟ فالملاحقة القضائية استغرقت سنوات، وتقدّم الرأي العام على المؤسستين الحزبية والدستورية في المطالبة بالمساءلة.
الخلل لا يكمن في مسار العدالة وحده، بل في محيطها السياسي. فعلى الرغم من الأحكام القطعية، لم يجرؤ التيار المحافظ على مراجعة دور ساركوزي بصدق، بل ظلّ ينظر إليه باعتباره “خزانًا انتخابيًا” وورقة ضغط داخلية. وبذلك، لم تتحوّل المحاكمة إلى فرصة لتطهير المؤسسة السياسية من ممارسات عتيقة، بل اكتفى الجميع بمسرحة الأزمة، وتركها معلّقة بين القانون والذاكرة.
هذه الازدواجية بين القانون والسياسة تُضعف الثقة العامة. فالفرنسيون يتساءلون بحق: إذا كانت العدالة قد أدانت الرئيس، فلماذا لم تعلن المؤسسة الحزبية قطيعتها معه؟ وإذا كانت الدولة قد نزعته من قائمة الشرف، فلماذا لا تنزعه من وجدان المحافظين؟ وهذا التردد في القطع، لا يعكس إلا هشاشة البنية السياسية التقليدية.
في النهاية، لا يقتصر أثر المحاسبة على العقوبة، بل على قدرتها في إعادة تعريف المسموح والممنوع في الحياة العامة. وحتى الآن، ما زالت فرنسا تعالج أعراض فساد النخبة، دون أن تواجه المرض نفسه: امتزاج السلطة بالامتياز، والسياسة بالحصانة، والتاريخ بالاستثناء.
صدى إفريقي لا يُمكن تجاهله
حين صدر قرار تجريد ساركوزي من الوسام، لم يكن كثير من الأفارقة بحاجة لتذكيرهم بملفاته في القارة. فالرجل، من خلال قراراته وتصرفاته، ترك أثرًا عميقًا في قلب خرائط إفريقيا السياسية، بدءًا من دعمه الحاسم للتدخل العسكري في ليبيا، والذي تسبّب في فوضى إقليمية ما تزال ارتداداتها مستمرة حتى اليوم، وليس انتهاءً بصلاته المزعومة بشبكات تمويل عابرة للقارة.
في ليبيا تحديدًا، كانت سياسات ساركوزي نموذجًا صارخًا لتوظيف القوة العسكرية لخدمة الحسابات السياسية الداخلية والخارجية. ومع سقوط القذافي، لم تسقط معه الديكتاتورية فقط، بل تفككت الدولة، وتشظّى الإقليم، وظهرت جماعات مسلحة ما لبثت أن تسربت إلى الساحل، فدمرت استقرار مالي وبوركينا فاسو والنيجر. وهذه السلسلة المأساوية تحمل في جذرها لحظة قرار سياسي من باريس، وقّعه ساركوزي ذات مساء.
وفي النيجر، البلد الذي يعيش على وقع توتراته مع فرنسا اليوم، لم تكن ممارسات ساركوزي أقل إشكالية. فقد حافظ على علاقات وثيقة مع نخب سياسية مرتبطة بفرنسا، فيما تجاهل الديناميات الاجتماعية والسياسية المحلية، مما جعل من حضوره مثار شك وريبة، لا شراكة متوازنة. وبذلك، ساهم في ترسيخ صورة “فرنسا الحامية للحلفاء” لا الشريكة للمجتمعات.
لهذا، فإن قرار تجريده من الوسام يجد في إفريقيا آذانًا صاغية، وقلوبًا مفعمة بالتأمل. إذ لا يُنظر إليه كإدانة لسلوك شخصي فقط، بل كمؤشر على سقوط منظومة سياسية تعاملت مع القارة كفضاء مفتوح للتجريب السياسي والتدخل اللامشروط. وهنا، فإن لحظة الرمزية الفرنسية قد تصبح دافعًا لإفريقيا كي تعيد كتابة علاقتها مع النخب السابقة، لا من موقع التبعية، بل من موقع الندّية والمسؤولية التاريخية.
خاتمة: لحظة للذاكرة، لا للشفقة
تجريد ساركوزي من وسام الشرف ليس لحظة عاطفية تستدعي الشفقة على رئيس سابق؛ بل نقطة مفصلية في استعادة الذاكرة السياسية لوظيفتها الأخلاقية. فحين تسقط الرموز من عليائها، تتاح لنا فرصة إعادة تعريف ما تعنيه القيادة، وما الذي يُمنح تكريمًا، وما الذي يُسحب عقابًا. وهذه اللحظة، على رمزيتها، تصلح لأن تكون مرآة للعواصم الإفريقية التي لم تجسر بعد على محاسبة كبارها.
لكن الحقيقة الأعمق، هي أن العدالة لا تكتمل بمجرد نزع وسام، ولا بكشف قضية؛ بل ببناء وعي سياسي جديد يُدرك أن الزمن تغير، وأن الشعوب تملك من الذاكرة والحس النقدي ما لا تمحوه الألقاب ولا تغسله الأوسمة. وساركوزي، وإن نُزعت عنه شارات الشرف، سيظل حاضراً كأثر ينبغي تفكيكه، لا فقط شخصاً ينبغي عزله.
وفيما يخص إفريقيا، فإن هذا الحدث يجب أن يُلهمها لاكتساب روح الاستقلال الفعلي، لا في السيادة السياسية فقط، بل في قراءة الماضي والحاضر بعيونها هي، لا بعيون باريس. فالكرامة السياسية لا تُستعار من الجوائز، بل تُبنى بتكامل الرؤية، وصدق المراجعة، وحكمة الذاكرة.