
في مشهد يعيد الذاكرة إلى عصور الرقابة الفكرية ومحاكم التفتيش، يُحاكم اليوم رئيس حزب “المحولون” الدكتور سكسي ماسرا، على خلفية صوتية منسوبة إليه، يعود تسجيلها إلى سنوات مضت.
وقد أثار هذا التحرك القانوني جدلًا واسعًا، واستنكارًا من أنصاره وقطاعات من المجتمع المدني، ممن اعتبروا أن المحاكمة تحمل في طياتها انتقائية سياسية ومصادرة لحرية الرأي.
لكن، ومن باب الإنصاف الفكري، لا بد من التوقف عند هذا الحدث من زاوية أعمق، تتجاوز الشعارات المألوفة عن الحرية والعدالة.
ففي عالم السياسة والفكر، ليست الأفكار القديمة بالضرورة بلا خطر. ولعلّ الأمثلة عديدة على نصوص أو خطابات أو كتب تعود لعقود أو حتى قرون، لكن تأثيرها يمتد إلى الحاضر، وتُستعاد في لحظات حرجة لتُلهب واقعًا جديدًا.
فهل يعلم المدافعون عن ماسرا أن كثيرًا من الكتب في التاريخ البشري كانت تُمنع لا لِسوء لغوي أو خلل فكري، بل لأنها تحوي أفكارًا غير مرغوب في انتشارها؟ وهل ننسى أن امتلاك كتابٍ كان سببًا كافيًا للاعتقال؟ ذلك لأن الاحتفاظ بالفكرة يعني الإيمان بها، والإيمان بها يعني احتمال العمل بها يومًا ما.
إن الجماعات الإرهابية، على سبيل المثال، لا تزال تعتمد على نصوص عمرها أكثر من 1400 عام لتبرير العنف، مما يوضح أن الزمن ليس حصانة للفكرة، وأن ما قيل بالأمس يمكن أن يُفجّر واقعًا في الغد.
وعليه، فإن مقاربة قضية ماسرا لا يجب أن تنحصر في التاريخ الزمني للصوتية، بل في طبيعة مضمونها، ومدى خطورته على السلم الأهلي، خاصة إذا كانت تعبّر عن تحريض أو تهديد مباشر. يجب أن نسأل: لو أُذيعت هذه الصوتية اليوم، هل كنا سنقبلها؟ إذا كانت الإجابة “لا”، فإن التاريخ لا يمنحها البراءة تلقائيًا.
ومع ذلك، فإن المطالبة بالعدالة لا تعني تجاهل الخلفيات، بل العكس. من العدل أن يُنظر في دوافع المحاكمة، وتوقيتها، ودرجة تسييسها، وهل تتم في إطار قانوني متوازن أم تُستخدم كأداة لتصفية الخصوم. فكما نرفض محاكمة الأفكار، نرفض أيضًا استخدام القضاء لتصفية الحسابات السياسية.
في النهاية، تظل المقارنة حاضرة بين من يُمنح المجد بسبب خطاب تحريضي تعبوي (كما في حالة بعض القادة الثوريين)، ومن يُجرّم بسبب رأي قديم في ظرف حساس. والسؤال الحقيقي الذي يجب أن نطرحه: هل نحن نحاكم الأشخاص، أم نحاكم الأفكار؟ وإذا كانت الإجابة هي الثانية، فلماذا لا نحاكم سكسي بنفس الميزان؟
العدالة لا تقوم على الانتقاء، والحرية لا تعني الإعفاء من المسؤولية. وبين الصوت والمضمون، تبقى المسؤولية الأخلاقية والقانونية هي الفيصل. والعفوة أيضا في مثل هذه الحالة يعزز من الوحدة الوطنية.